ما بينهم وبينه، فيسوء رأيهم فيه، ويطول عتبهم عليه، ويؤخِّرون ترفيعه، وربما احتالوا على قانون حصانة القاضي فنقلوه إلى مكان سحيق، لأن العرف الحكومي اليوم أن الموظف الصالح هو الذي يألف ويؤلف، ويرضى عنه من حوله، ولا تثور عليه ثائرة، ولاتضجُّ ضجة. وهل ينال ذلك قاض نزيه لا يعرف من الطرق إلا الصراط المستقيم. وليس له إلا وجهه الواحد الذي ركَّبه الله له، ولسانه الفرد الذي وضعه فيه، وما معه إلا قانون واحد يسوق بعصاه الوجيه الخامل، والكبير والصغير.
وقديماً نال بعض قضاتنا أذى كبيراً من أجل إقامة العدل ودحض الظلم، والصدع بالحق؛ ولكنهم صبروا فأعزَّهم الله بصبرهم وأظهرهم وأعلى أمرهم. هذا الحارث بن مسكين قاضي مصر يحمل إلى المأمون أيام المحنة، محنة الدين والخلق التي جرِّبت فيها صلابة الرجال، وقوة العزائم ففاز في هذا الامتحان أقوام وخسر أقوام. وكان إمام الفائزين أحمد بن حنبل - فيظل الحارث على ما يرى أنه الحق، ما لانت له عزيمة ولا وهت له قوة. وهذا عمر بن حبيب القاضي لا يسعه أن يسمع الطعن على أبي هريرة ويسكت فيحتسب دمه عند الله ويردَّ رأي الخليفة العظيم الذي قال للغمامة أمطري حيث شئت فسيأتي خراجك، هارون الذي أباد البرامكة في ساعة وكانوا أعزة الأرض وكرام الناس، يرد عليه فيغضب ويعرضه على السيف والنطع، فيغلب حقه وثباته عليه، بطشة الرشيد البطَّاش، فيلين ويعفو ويكافئ ويشكر.
...
أو سمعتم قصة سلطان العلماء العز بن عبد السلام القاضي، أحد أفذاذ البشر علماً وحزماً وإيماناً ومضاءً، لما صح عنده أن المماليك لم يفارقهم الرقّ وهم حق لبيت المال، والمماليك يومئذ هم الملوك يا سادة! هم أصحاب الدولة والسلطان، فنادى ببيعهم فقاموا عليه قومة رجل واحد، وقام معهم كل متزلِّف من الناس لذوي الإمارة، وهدَّدوه وسعى ساعيهم بالسيف إلى باب داره، فنزل إليه فأطفأ بهيبة إيمانه شعلة غضبه، وفلَّ بعزيمته حدَّ سيفه. وبقي على موقفه