على أن في القضاة من كان يقضي بالمجان. قال ابن خذامر: ما أخذت على القضاء شيئاً إلا جوزتين فلما صرفت تصدَّقت بهما! وقريب من هذا ما صنعه القاضي بكَّار بن قتيبة لما همَّ ابن طولون بخلع الموفَّق من ولاية العهد، وأجابه القضاة كلهم إلا بكَّاراً، فطلب أن يلعنوا الموفق فامتنع بكار فألح عليه فأصرَّ على الامتناع حتى أغضبه، فقال له: أين جوائزي؟ وكان يصله كل سنة بألف دينار، فقال: هي على حالها، هناك، فنظروا فإذا هي ملقاة بأكياسها في دهليز منزله. فبعث أحمد فقبضها.
...
على أن الغنم بالغرم. وإذا كثرت مرتبات القضاة فلقد كثرت تكاليفهم وازدادت الواجبات عليهم، وإذا كان العرف اليوم على أن الموظف إذا قام بعمله كان حراً في نفسه ووقته. وهو لعمر الفضيلة عرف أشبه بالنكر، وإذا كان القانون اليوم لا (يكاد) يؤاخذ قاضياً على فسوق في نفسه أو عصيان لربه ما لم يتَّصل بعمله، فلقد كان القاضي يؤاخذ على الصغيرة والكبيرة وتطلب منه أخلاق الملائكة، وشمائل الصدِّيقين، قد بوِّبت في ذلك الأبواب، وصنِّفت فيه الكتب، وشاع واشتهر، وأغنى الخُبر فيه عن الخبر، ولم يبق للكلام فيه مجال، ولا لقائل مقال. وإني لأسرد طائفة من ذلك على سبيل التمثيل عليها، والإشارة إليها، لا أريد المتعلق منها بالمحاكمة وأصولها فسيأتي الكلام في ذلك، ولكن أريد شمائل القاضي وآدابه في نفسه، وملاكها استشعار التقوى، وإدامة المراقبة لله عز وجل. وقد امتحن عليٌّ، رضي الله عنه، قاضياً فقال له: بِمَ صلاح هذا الأمر؟ قال: بالورع. قال: ففيم فساده؟ قال: بالطمع. قال: حُق لك أن تقضي. ونصُّوا على أن من آكد الواجبات على القاضي ألَّا يحفل بالناس، ولا تأخذه لومة من لائم، وأن يقيم الحق، ولو أغضب الحق أقواماً. قيل لشريح: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت وشطر الناس عليَّ غضبان.
وهذه يا أيها السادة مزلَّة أقدام القضاة، ولا سيَّما في أيامنا، لأن القاضي اليوم لا يعلم في كل قضية شفاعة ووساطة، فإذا أمضى الحق لم يحفل بالشفاعات ولا الوساطات، لم يخلُ من أعداء يشونَ به إلى أولي أمره، ويسوِّدون