يا أمير المؤمنين؟! أردت أن تشهرنا في الأمصار بأن بلدنا ليس فيه من يصلح لقضائنا حتى تولِّي علينا من غيرنا. قال المنصور: فسمِّ رجلاً. فقال: أبو معدان اليحصبي. فقال: إنه لخيار ولكنْ به صمم، ولا يصلح الأصمُّ للقضاء. قال: فعبد الله بن لهيعة. فقال: فابن لهيعة.
انظروا أيها السادة إلى معرفة المنصور بأهل العلم من رعيَّته على بعد ما بين العراق ومصر، ورجوعه عن أمره الذي أمر به الربيع لما بدا له الحق فيما قال ابن حديج. واختياره الصالح للعمل بعد الاستشارة والسؤال. وتوليته إياه القضاء من غير طلب له ولا سعي منه إليه. ولولا حقُّ المجاملة وأني ربما نشرت هذه المحاضرة في الرسالة، لقلت: انظروا إلى حبِّ أهل مصر بلدهم وقديم عصبيَّتهم له!
...
ونصَّ الحنفيَّة على أنه يجوز تقلد القضاء من السلطان العادل والجائر، وإنما يجوز تقلد القضاء في السلطان الجائر إذا كان يمكِّنه من القضاء بحق ولا يخوض في قضاياه بشرٍّ ولا يتداخل في أحكامه، ويجوز التقلُّد من أهل البغي، كل ذلك لأن القضاء فريضة محكمة والقاضي إذا حكم بالحق فقد أقام الفريضة، وضرر تقلّده من السلطان الجائر، أو الغاصب الباغي لا يعدل ضرر تعطيل القضاء وترك أمور الناس فوضى!
وكان أبو حنيفة يرى ولاية القاضي سنة واحدة يعزل بعدها ليعود إلى الاشتغال بالعلم فلا ينساه، وكأنَّ أبا حنيفة ينظر إلى ما وراء القرون فيرى هذا الزمان الذي نجد فيه العلماء ينصرفون عن العلم إذا ولوا الولايات فكيف وقد كثر ما يتولَّاها الجاهلون ...
وكان طلب الرجل العمل قادحاً في صلاحه ولم يكن الخلفاء يولُّون الأعمال طالبها. كان ذلك والإسلام إسلام؛ والناس ناس، فرحمة الله على أولئك الناس.
***