يحيى بن أكثم قضاء البصرة وكان ابن ثماني عشرة تكلم بعض الناس فيه لحداثة سنِّه، فكتب إليه المأمون: كم سنُّ القاضي؟ فكتب في جوابه: أنا على سنِّ عتَّاب بن أسيد لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة قاضياً وأميراً. فسكت عنه المأمون وأعجبه.
والامتحان المسلكي معروف عندنا، وقد دعا عمر قاضياً كان في الشام حديث السن فامتحنه بالعلم فقال له: بم تقضي؟ قال: أقضي بما في كتاب الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: بما قضى به رسول الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: بما قضى به أبو بكر وعمر. قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي. فقال له عمر: أنت قاضيها. وردَّه إلى عمله. وحديث عمرو بن العاص لما جرَّبه النبي صلى الله عليه وسلم واختبره عمليّاً، معروف معلوم.
...
هذا وإمام المسلمين مأمور بأن لا يقلِّد أحداً شيئاً من عمل المسلمين إلا إذا علم صلاحه له. روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قلَّد رجلاً عملاً وفي رعيَّته من هو أولى به منه فقد خان الله ورسوله وجماعة المسلمين».
وكان الخليفة هو الذي يقلِّد القضاء، وربما قلده الوزير أو الأمير إذا ولَّاه الخليفة ذلك وصرَّح به في عهده، لأن القضاء في الأصل من حقِّ الخليفة، وقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم واستقضى، وقضى الخلفاء الراشدون من بعده واستقضوا. وفي تاريخنا أسلوب بارع لتقليد القضاء، هو أن يدعو الخليفة أو الأمير مشيخة العلماء وكبار القوم ويأمرهم أن يعرضوا عليه أسماء من يصلح للقضاء، ويذكروا لكل عيوبه ومزاياه، ثم يختار من تُجمع عليه الكلمة أو من يظهر فضله على غيره ظهوراً لا خفاء فيه، وأكثر ما رأيت هذا الأسلوب في قضاة مصر. ولقد كان تقلد عيسى بن المنكدر وأبي الذكر محمد بن يحيى بالانتخاب، ولما كان وفد مصر في العراق عند المنصور وجاءه نعي قاضي مصر، قال لهم: أعظم الله أجركم في قاضيكم أبي خزيمة. ثم التفت إلى الربيع فقال له: أبغنا لأهل مصر قاضياً، فقال له ابن حديج (وكان في الوفد): ما أردت بنا