وكانت وظيفة القاضي (أي مرتبه) أجزل الوظائف ورزقه أكثر الأرزاق، ففي العهد الذي كان عمر يلبس فيه الثوب المرقَّع ويقنع بالزيت، وكان عليٌّ تُجزئه قصعة ثريد، كان مرتب شريح القاضي خمسمئة درهم في الشهر، وكان مرتب ابن حجيرة الأكبر كما ذكره الكندي، ألف دينار في السنة فلا يحول عليه الحول وعنده منها شيء، بل كان ينفقها على أهله وإخوانه وفي وجوه البر. وكان مرتب ابن لهيعة ثلاثين ديناراً في الشهر. وأجري مثل ذلك على القاضي المفضل بن فضالة. وجعل عبد الله بن طاهر راتب القاضي عيسى بن المنكدر أربعة آلاف درهم في الشهر، وراتب الفضل بن غانم مئة وثمانية وستين ديناراً في كل شهر، وكان راتب أبي عبيد القاضي الفقيه مئة وعشرين ديناراً في الشهر، وكان يقول: ما لي وللقضاء؟ لو اقتصرت على الوراقة ما كان خطِّي بالرديء! وقد نقل الكندي في تاريخه صورة براءة (سند راتب) من أيام مروان بن محمد فيها: (بسم الله الرحمن الرحيم من عيسى بن أبي عطاء إلى خزَّان بيت المال. فأَعطوا عبد الرحمن بن سالم القاضي رزقه لشهر ربيع الأول وربيع الأخر سنة إحدى وثلاثين ومئة، عشرين ديناراً، واكتبوا بذلك البراءة. وكتب يوم الأربعاء لليلة خلت من ربيع الأول سنة إحدى وثلاثين ومئة). وهي تبين لنا أن الرواتب قد تدفع سلفاً (وهي كذلك اليوم في بلاد الشام) وتكشف عن ناحية من الأسلوب المالي لدفع المرتَّبات.
نظر خلفاء المسلمين بنور الله فدفعوا إلى القضاة المال الوفير، والرزق الكثير، لتعفَّ نفوسهم عن حرامه اكتفاءً بحلاله، وذلك ما تفعله أرقى الأمم في زماننا وأقومها سيرة في القضاء، على أنهم لو تركوا قضاتنا إلى دينهم لوزعهم، ولو خلُّوا بينهم وبين نفوسهم لقمعوها بخوف الله، وأزاحوا شهوتها بانتظار جنته وخشية ناره. ولقد كانوا على هذا المرتب الكثير، والعطاء الجزل، أولي تقشُّف وزهد، ينفقون المال يشترون به الجنة ثم يعودون إلى زهادتهم وقناعتهم: حدَّث إبراهيم بن نشيط قال: دخلت على القاضي ابن حجيرة الأصغر (وكان قد تغدَّى) فقال: أتتغدى؟ قلت: نعم. قال: أعيدي عليه الغداء يا جارية. فأتت بعدس بارد على طبقِ خوص وكعك وماء. فقال: ابللْ وكلْ، فلم تتركنا الحقوق نشبع من الخبز!