وصدِّقوني إذا قلت لكم إني لم أدر إلى الآن مع من منا الحق، ولم أفهمها، وكيف أدرس ملفّاً فيه من الأوراق المكتوبة بالعربية والتركية والفرنسية أكثر مما في تاريخ ابن جرير الطبري؟ أما قضاؤنا، فكان يبتُّ في القضية مهما عظمت في جلسة أو جلستين، لا يعرف هذا التطويل وهذا التأجيل. ولقد حكم قاضي مصر محمد بن أبي الليث في دعوى بني عبد الحكم المشهورة بمبلغ مليون وأربعمئة وأربعة آلاف دينار ذهبي في جلسة واحدة يوم السبت 8 جمادى الأولى سنة 237هـ، ورضي بحكمه الفريقان. روى ذلك الكندي.
وهل مثل قضاتنا في التنزُّه عن كل ما يقدح بحشمة القاضي ووقاره، وفي التحرُّز من أدنى التهم، وأضعف الميل؟ وهل للقضاة في أمة اليوم مثل ما كان لقضاتنا من رفيع الشأن وعظيم القدر؟
يا أيها السادة! اذهبوا إلى سوق الكتب فاطلبوا كتاب «الخراج» الذي ألَّفه القاضي الإمام أبو يوسف للرشيد واقرؤوا مقدمته، واذكروا عظمة الرشيد وكبر نفسه وجلال ملكه، ثم انبشوا تواريخ الأمم الماضية وأخبار الأمم الحاضرة، وانظروا ... هل تجدون قاضياً، أو عالماً، يقول لملك دون الرشيد بمئة مرة مثل هذا الكلام أو قريباً منه: «الله الله، إن البقاء قليل، والخطب خطير، والدنيا هالكة وهالك من فيها، والآخرة هي دار القرار، فلا تلق الله غداً وأنت سالك سبيل المعتدين، فإن ديَّان يوم الدين إنما يدين العباد بأعمالهم ولا يدينهم بمنازلهم، وقد حذَّرك الله فاحذر، فإنك لم تخلق عبثاً، ولن تترك سُدَى، وإن الله سائلك عما أنت فيه، وعما عملت به، فأعدَّ يا أمير المؤمنين للمسألة جوابها، فإن ما عملت قد أثبت فهو عليك غداً يقرأ، فاذكر كشف قناعك فيما بينك وبين الله في مجمع الأشهاد».
أيها السادة، هذا بعض ما خاطب به أبو يوسف القاضي هارون الرشيد أمير المؤمنين والحاكم المطلق في ست عشرة حكومة من حكومات هذه الأيام!
ولقد اشترط القانون اليوم فيمن يولَّى القضاء سناً معينة لا بد من إكمالها وامتحاناً مسلكياً. والشرع لم يشترط في السن إلا البلوغ. ولما قلَّد المأمون