مجلساً للقضاء. قال: إذن فإني أبدأ بالعامة ليصحَّ مجلس القضاء (وتكون المحاكمة علنية)؛ قال المأمون: افعل؛ ففتح الباب، وقعد في ناحية من الدار، وأذن للعامة، ونادى المحضر، وأخذت الرقاع (أوراق الدعوة والإعلان)، ودعي الخصوم على ترتيبهم حتى جاءت النوبة إلى المتظلِّم من المأمون، فقال له القاضي: ما تقول؟ قال، أقول أن تدعو بخصمي أمير المؤمنين المأمون. فنادى المحضر: «عبد الله المأمون»! فإذا المأمون قد خرج في رداء وقميص وسراويل في نعل رقيق ومعه غلام يحمل مصلَّى حتى وقف على يحيى، ويحيى جالس، فقال للمأمون: اجلس! فطرح الغلام المصلى ليقعد عليه، فمنعه القاضي حتى جاء بمصلَّى مثله، فبسط للخصم وجلس عليه والقصة طويلة عجيبة، تتمتها أعجب من فاتحتها، فاقرؤوها في (المحاسن والمساوئ) للبيهقي، الجزء الثاني الصفحة 151، وإنكم لتحارون بعدُ مِمَّ تعجبون: من جرأة الرجل، أو من صلابة القاضي، أو من أخلاق المأمون!
ومن قبله غضب عليٌّ (كما قيل) حين كانت له دعوى مع اليهودي، لأن القاضي ناداه: يا أبا الحسن، ودعا اليهودي باسمه، فرأى في ذلك تعظيماً له وإخلالاً بالمساواة بين الخصوم، والله أعلم بصحَّة ما قيل. ونزل ضيف بخير بن نعيم قاضي مصر فأطعمه وأكرمه، ثم علم أن له خصومة لديه، فتركه في الدار، وذهب يفتِّش عن خصمه حتى جاء به فأجلسه معه على المائدة. وقد حدَّثني حمي القاضي صلاح الدين الخطيب عن عمِّه قاضي يافا في زمانه العالم الجريء المشهور صاحب النوادر الشيخ أبي النصر الخطيب بمثل هذه القصة ... وما كان الخير لينقطع في أمة محمد إلى يوم القيامة.
هذا قضاؤنا، فهل سمعتم أن قضاءً أسرع في إحقاق الحق منه، وأبعد عن التعقيد والالتواء والتسويف والتأجيل؟ إن الحق اليوم لا يكاد يصل إليه صاحبه حتى تنقطع دونه الأعمار، وما جَدَى حق يأتي من دونه المدى الأطول؟ لقد كانت بيننا وبين آل الصلاحي في دمشق دعوى على أرض لبثت في المحاكم ثلاثاً وثمانين سنة وخمسة أشهر ... أقامها جدّهم على جدِّي الذي قدم من (طنطا)، وانقرض منا ومنهم بطنان والدعوى قائمة، وقد خسرناها أخيراً.