القاضي الكاتب لأنه مشى في حاجة لظالم، فاستعان عليه بجماعة من وجوه العراقيين من إخوان القاضي، فساقهم جميعاً إلى الحبس، فغضب الأمير وبعث من أخرجهم. عند ذلك -أيها السادة- عصفت نخوة الشرع في رأس القاضي، وأخذته عزَّة الإيمان فقال: «والله ما طلبنا هذا الأمر (يعني المنصب)، ولكنهم أكرهونا عليه، وضمنوا لنا فيه الإعزاز إذ تقلَّدناه لهم». ثم ختم قمطره، وجمع سجلَّاته، واحتمل بأهله، فتوجَّه نحو بغداد، ووقعت الرجفة في الكوفة حين مشى فيها خبر خروج القاضي، حتى خاف الأمير على سلطانه، فلحق بالقاضي يناشده الله أن يرجع، فقال القاضي: «لا والله حتى يردَّ أولئك إلى الحبس، فما كنت لأحبس أنا وتطلق أنت»؛ فبعث الأمير من يرجعهم إلى الحبس، والقاضي واقف ينتظر حتى جاءه الخبر بأنهم قد أُرجعوا، فقال القاضي لغلامه: خذ بلجام دابة الأمير وسُقه أمامي إلى مجلس الحكم، إلى المسجد، أيها السادة، وهناك أجلسه بين يديه مع المرأة، فلما انتهت المحاكمة وحكم لها عليه، نهض إليه فسلَّم عليه بالإمارة وقال له: هل تأمر بشيء؟ فضحك الأمير وقال: بماذا آمر؟ وأي شيء بقي؟ قال له شُريك: أيها الأمير، ذاك حقُّ الشرع، وهذا حقُّ الأدب. فقام الأمير وهو يقول: من عظَّم أمر الله، أذلَّ الله له عظماء خلقه!
هذا قضاؤنا، فهل سمعتم عن قضاء أنه بلغ في التسوية بين الخصوم مبلغه؟ لقد سووا بينهم في المجلس والخطاب والبِشْر، واللفتة العارضة، والبسمة البارقة، بله الحكم. وقد بلغ التدقيق في تحقيق هذه التسوية مبلغاً لا غاية وراءه، فاقترن في هذه المسألة العلم بالعمل، وحقَّق القضاة ما دوَّن الفقهاء، فافتحوا أقرب كتاب فقه إليكم تروا ماذا دوَّنوا ...
وقف بين يدي المأمون وهو في مجلس المظالم رجل يتظلَّم منه نفسه، فترادَّا الكلام ساعة فما اتفقا، قال المأمون: فمن يحكم بيننا؟ قال: الحاكم الذي أقمته لرعيتك يحيى بن أكثم، فدعا به المأمون فقال له: اقض بيننا؛ قال: في حكم وقضية (أي في دعوى)؟ قال: نعم؛ قال القاضي: لا أفعل. فعجب المأمون وقال: لماذا؟ قال يحيى: لأن أمير المؤمنين لم يجعل داره مجلس قضاء، فإن كانت له دعوى فليأت مجلس الحكم (أي المحكمة)؛ قال المأمون: قد جعلت داري