فكر ومباحث (صفحة 104)

وسيأتي الكلام في صفات القاضي، وأن الأصل فيه أن يكون من أهل الاجتهاد لا من المقلِّدين.

ولقد رأيت في تراجم بعض القضاة أنهم كانوا يرجعون إلى الخلفاء يسألونهم ويستفتونهم، وأن من الخلفاء من كان يذيع من (البلاغات) ما ظاهره إلزام القاضي بقول أو مذهب.

وتحرير الكلام في هذه المسألة أن من أعمال الخلفاء الاجتهاد والفتوى والقضاء وقيادة الجيوش وسدِّ الثغور، ومن شرائطهم العلم، فإذا رجع القضاة إلى الخلفاء، فإنما يرجعون إليهم لعلمهم وفقههم لا لسلطانهم ومنصبهم، وأكثر ما رأيت من السؤال إنما هو لعمر بن عبد العزيز وأمثاله. ولقد كانوا يقولون: «العلماء عند عمر بن عبد العزيز تلامذة» ... ولم يكن القضاة ملزمين بالعمل بجواب الخليفة أو بلاغه. ولقد ردَّ القاضي المصري بكَّار بن قتيبة بلاغ الموفَّق العباسي، لما ثبت عنده أنه مخالف للحكم، مناهض للدليل وأسقط العمل به (?).

ولعمر الحق ما فرَّط قضاتنا بهذه الأمانة ولا أضاعوها، بل كانوا أمناء عليها، قائمين بحق الله فيها، لا يعرفون في الحق كبيراً ولا صغيراً يقيمونه على الملوك قبل السوقة، ويأخذون للضعيف الواني من القوي العاتي، لم تكن تنال منهم رغبة ولو جئتهم بكنوز الأرض، ولا تبلغ رهبة ولو لوَّحت لهم بالموت منشوراً، بل كانوا في الحق كالجبال هيبة وثباتاً، وفي إنفاذه كالصواعق مضاءً وانقضاضاً، وسيأتيكم حديث محمد بن عمران قاضي مكة، الذي ادَّعى لديه جمَّال على أمير المؤمنين، العظيم المخيف، أبي جعفر المنصور، فبعث إليه (مذكرة جلب)، فجاء في خفٍّ وطيلسان ما عليه من شارات الإمارة شيء، حتى وقفه بين يديه مع الجمَّال. وشُرَيْك قاضي الكوفة حين ادَّعت لديه امرأة مجهولة على الأمير الخطير ابن عم الخليفة وثاني رجل في الدولة بعده عيسى بن موسى، فحكم عليه حكماً غيابياً، فامتنع الأمير من إنفاذه وتوسَّل إليه بكاتبه، فحبس

طور بواسطة نورين ميديا © 2015