فكر ومباحث (صفحة 103)

والقضاء (عند المسلمين) أقوى الفرائض بعد الإيمان، وهو عبادة من أشرف العبادات، لأنه إظهار للعدل، وبالعدل قامت السماوات والأرض. وصف الله به نفسه إذ قال: {فالله يحكم بينهم} و {إن ربك يقضي بينهم}، وأمر به نبيَّه فقال: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم}، وجعل أنبياءه قضاة بين خلقه {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيُّون}، وبه أثبت الله اسم الخلافة لداود حين قال له: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض، فاحكم بين الناس بالحق، ولا تتَّبع الهوى}.

والقضاء أول ما تعقد عليه أمة خناصرها، إذا عدَّدت أمجادها ومفاخرها.

وإذا استدلَّ بفرد على سلائق جيل، كان القاضي العالم العادل أظهر دليل على مكارم شعبه ونبل أمته. وإذا كان بين الشعوب اليوم من يفخر باستقلال قضائه، وعزته ومضائه، ففاخروه يا شبابنا بقضائكم يكن لكم الفخار، وتعقد على جباهكم تيجان (الغار)، ولكن لا تناموا على هذا المجد التليد، بل انهضوا فَصِلوه بمجد لكم جديد!

...

يا أيها السامعون! إني لا ألقي خطابيات، ولكن أسرد حقائق:

هذا قضاؤنا، فمن عرف قضاء أشدَّ منه استقلالاً؟ هل نال قاض في أمة من الحرية مثل ماكان لقضاتنا؟

لم يكن القاضي مقيداً بمذهب بعينه لا يد له في مخالفته، ولا مربوطاً بقانون بذاته لا يملك الخروج من ربقته، وليس لخليفة عليه في حكمه سلطان، ولا لأمير معه في قضائه كلام، تبدَّلت على المسلمين دول، واختلفت حكومات، وقام قاسطون ومقسطون، وخيِّرون وشريرون، والقضاء في حصن حصين، لا تبلغه يد عادل ولا ظالم ولا يمسّه خليفة حق ولا سلطان جائر ... القاضي واجتهاده، مرجعه كتاب الله وسنَّة نبيه، ورقيبه ضميره ودينه، ووازعه إيمانه ويقينه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015