ويبدو أن بعض الأمراء لم يعجبهم حزم وعدالة القاضى عياض، كما خافوا من كثرة أتباعه وانتشار صيته ومحبة النَّاس له، فلذلك عزموا على نقله إلى غرناطة, ولم يذكروا سببًا مقنعًا، مما جعل الفقيه أبا الحسن بن هارون المالقى يمدح القاضى عياضًا فى أبيات سجلتها ذاكرة التاريخ:

ظلموا عياضًا وهو يَحْلُمُ عنهم ... والظلمُ بين العالمين قديمُ

جعلوا مكانَ الراءِ عينًا فى اسمه ... كى يكتموه فإنَّه معلوم

لولاه ما فاحتْ بطائحُ سبتة ... والروض حول فنائِها معدوم (¬1)

وانتقل القاضى عياض إلى غرناطة ممتثلاً لأمر الأمير فهبَّ أهل غرناطة لاستقباله كما يستقبل الفاتحون، وبالله إنه لحق فاتح للعقول, ومنور للقلوب, ومطهر للنفوس بعلمه الغزير، وخُلُقه المتواضع وسيرته العطرة.

وسار فى النَّاس سيرة العدل، ورفع الظلم، وإحقاق الحقوق دون خوف من أمير أو وزير، ونشط وضاق به ذرعًا مَن تعرَّضت مصالحه للخطر، ولا يستطيع الحصول عليها إلا بالظلم، وأسفرت مكايد الأشرار فى غرناطة عن عزل القاضى النزيه فى عام 532هـ, ورجع إلى بلده ليكون بعيدًا عن القضاء قريبًا لطلاب العلم وحلقاته, وقصده النَّاس وانتفع به العباد, ونشر نور الكتاب والسنة فى البلاد، واستمرَّ على تلك الحالة الدعوية سبع سنين، وفى أواخر دولة المرابطين عام 539هـ دعى ليتولَّى قضاء سبتة من جديد، وهو فى الثالثة والستين من عمره، وكان شيخًا جليلاً وعالمًا عظيمًا، وقاضيًا حكيمًا, وأبًا رحيمًا، فابتهج النَّاس لعودته, وسار فيهم سابق سيرته، وما مضت شهور قليلة حتى سقطت دولة المرابطين على يد دولة المُوَحِّدِين البدعية فاضطرَّ القاضى الجليل إلى خوض الحياة السياسية والحربية (?).

د- معارك السياسة والحرب:

إن ظهور دولة المُوَحِّدِين على يد المبتدع الكبير مُحَمَّد بن تومرت كانت من أسباب سقوط دولة المرابطين، فطبيعى جدًّا أن يخوض حربًا ضد دولة المُوَحِّدِين، وتولَّى قيادة

طور بواسطة نورين ميديا © 2015