معرفته، ويكفي معرفة الحكمة والتعليل في ثواب وعقاب المكلفين وهو المراد، وإلا فمن المحال معرفة أسرار أفعاله كلها لأن الرب تعالى لا يمثل بالخلق لا في ذاته ولا صفاته ولا في أفعاله، بل له المثل الأعلى، فما ثبت لغيره من الكمال فهو أحق به، وما تنزه عنه من النقص فهو أحق بتنزيهه عنه سبحانه، وليس كل ما كان ظلماً من العبد يكون ظلماً من الرب، ولا ما كان قبيحاً من العبد يكون قبيحاً من الرب؛ فإنه سبحانه ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، لكن القدرية شبهت في الأفعال فقاسوا أفعال الله على أفعال خلقه وهو أفسد القياس. اهـ.
وقد ترتب على تضييع هذا الأصل اختلاف شديد بين المتكلمين في هذه المسألة، فأطالوا فيها النفس وحاروا وتماروا ولو أنهم سلموا لقول ربهم (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) لكفاهم وكما قال رسولنا عليه الصلاة والسلام " من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه".
ثم إن تسليط الله تعالى لبني آدم وغيرهم على البهائم ليس من باب العقوبة لها، بل هو في الأصل ابتلاء شرعي لبني آدم أنفسهم، حيث أمروا بالإحسان إليها حتى في القتل والذبح، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته فليرح ذبيحته. رواه مسلم.
فمن ذنوب بني آدم التي يحاسبون ويعاقبون عليها يوم القيامة: إيلام أو إتلاف الحيوان بغير حق، وقد ثبت في ذلك نصوص كثيرة، من أشهرها قول النبي صلى الله عليه وسلم: عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت فدخلت فيها النار؛ لا هي أطعمتها وسقتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض. متفق عليه. وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: من قتل عصفورا في غير شيء إلا بحقه سأله الله عز وجل عنه يوم القيامة. رواه أحمد والنسائي، وحسنه الألباني. ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو غفر لكم ما تأتون إلى البهائم لغفر لكم كثيرا. رواه أحمد. وحسنه الألباني، وجوده المناوي في (التيسير) وقال: أي ما تفعلون بها من الضرب وتكليفها فوق طاقتها من الحمل والركوب. اهـ.
فلا بد من التنبه إلى أن إقامة العدل المطلق لا يكون في الدنيا، وإنما يكون في الآخرة، كما قال تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ {الأنبياء:47}
وقال عز وجل: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ {إبراهيم 42}