أدباء المجالس
من الأدباء مَن كنت أقرأ له فلا أبتغي بلاغة ولا لَسَناً ولا بياناً إلا وجدت عنده فوق ما أبتغي، فأتخيل شخصه وأتوهّمه على أوفى ما يكون عليه المتفوّه اللسِن، ثم ألقاه فألقى الرجل الساكت الصَّموت الذي لا يكاد يتكلم حتى تكون أنت الذي يسأله ويدفعه إلى الكلام، وإذا تكلم أخفى صوته ولطّف حروفه حتى لا يُسمَع منه ولا يُفهَم عنه. ومن الأدباء من ألقاه في مجلس فأجد المحاضر الفيّاض الذي ينتقل من نكتة إلى نكتة ومن قصة إلى أبيات من الشعر، فيبتدع لها المناسبات ويلقيها بصوت قوي، ويتكئ على الحروف ويعظّم مخارجها، فأُكبره وأعظمه وأسأله أن يكتب مقالة أو ينشئ فصلاً، فيفرّ منه فراراً ويسوّف ويعتذر ... فإذا أُحرِج وكتب جاء بشيء هو أشبه بسفرة المُسَحِّر، فيها من كل طعام لقمة، ولكن الحلو مع الحامض والحار مع البارد، وكل طعام مع طعام.
وقد تتبعت أحوال هؤلاء، فوجدت أكثرهم على غير علم ولا اختصاص، ولا يطالع بجِدّ ولا يبحث بإمعان، ولا تدع له المجالس وقتاً لدرس ولا بحث، وإنما يحفظ الرجل منهم طائفة من الأخبار الأدبية والنوادر فيحملها معه أياماً يعرضها في كل مجلس، ويعيدها بعينها حتى ترِثّ وتَبلى وتصبح كالثوب الخَلق، فيعمد إلى غيرها فيصنع به مثلما صنع بها، ولا يدرك الناس الفرق بينه وبين الأديب المبدع الباحث، فيطلقون على الاثنين اسم «الأديب».
فمتى يميز الناس بين الأديب الحق، وبين أديب المجالس؟
* * *