أولهما: الحاجة والمصلحة، فقد لا يستطيع المرء اعتزال الفتنة إلا باعتزال الناس كلهم، او يخشى ان يُقْحَمَ فيها فَيُنْطَلَق به حتى يكون بين الصفين، وقد يرى أن العزلة الكلية عن القتال أو الاختلاف هي بلوغ السلامة.

وثانيهما: القدرة والاستطاعة، فقد لا يستطيع المرء اعتزال الناس لحاجته اليهم، فى أمور دينه أو فى أمور دنياه، ولذلك أمر النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من لم يكن له إبل ولاغنم ولا أرض أن يعمد الى سيفه فيدقه بحجر، ثم يبحث عن النجاة ما استطاع، وقال سلامة الرجل في الفتنة أن يلزم بيته.

الحالة الثالثة اعتزال السلطان عند فساده:

إن السلطان لابد له من أعوان ومستشارين وعمال ووزراء، يعينونه على ما تولى من شئون رعاياه الخاصة والعامة، الدينية والدنيوية.

وقد كان وجوه الصحابة من المهاجرين والأنصار هم بطانة الخلفاء الأربعة، وما زال كثير من الفقهاء الذين يرون فى أنفسهم القدرة على توجيه السلطان والتأثير عليه، ولا يخشون من فتنة وضرر، يغشون مجالسهم أمرين بالمعروف والعدل، ناهين عن المنكر والظلم، قاضين لحوائج الناس، ولهم فى ذلك كله مواقف مشهورة.

أما حين يكون غشيان السلاطين طلبا لنفع دنيوى عاجل، أو لتحقيق مصالح شخصية، وتزول منه نية الاحتساب ,والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنه يكون فتنة على صاحبه.

وقد غلبت على أحوال السلاطين ـ بعد عصر الراشدين ـ وجود شيء من الظلم والجور وإيثار العاجل على الآجل، حتى لا يكاد مخالطهم والملازم لهم يسلم من رؤيه منكر لا يستطيع له تغيرا، أو ظلم لا يستطيع له رفعا، أو حق مسلوب لا يستطيع له ردا.

وقد حذر النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من إتيان السلاطين وملازمتهم فى مثل تلك الحال، حيث يفوته من الخير أعظم مما حقق، بل ربما لم يحقق نفعا بالكلية.

وتأمل في الحديثين الآتيين بعين البصيرة وأمْعِنِ النظر فيهما واجعل لهما من سمعك مسمعا وفي قلبك موقِعاً عسى الله أن ينفعك بما فيهما من غرر الفوائد، ودرر الفرائد.

(حديث بن عباس رضي الله عنهما الثابت في صحيحي أبي داوود و الترمذي) أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من سكن البادية جفا ومن اتبع الصيد غفل ومن أتى السلطان افتتن.

[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:

طور بواسطة نورين ميديا © 2015