ليلة من ليالي أهل الجنة، قال الحبيب المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله}:
نامت الأعين إلا مقلة ... تذرف الدمع وترعى مضجعك
قال: فانطلقت معه، فأتينا إلى خيمة بها امرأة في الولادة وهي تبكي، فأخذ عمر يشاركها البكاء -لله دره، قلب وعى القرآن وعرف الإيمان- فقال أسلم: مالك يا أمير المؤمنين تبكي؟
قال: يا أسلم ما تدري ماذا تجد من ألم الولادة وألم النفاس، ثم انطلق إلى بيت المال، وأتى بجراب من شحم ومن دقيق ومن تمر وحمله على كتفه.
فقال أسلم: أنا أحمل عنك هذا يا أمير المؤمنين! قال: إنك لا تحمل خطاياي يوم القيامة، وذهب فدخل البيت، واستأذن على المرأة، فتحجبت وقام يشعل النار، والدخان يتخلل لحيته الكثة التي نصرت لا إله إلا الله في الأرض، فصنع الطعام وقدمه للمرأة فقالت: والله إنك خير من عمر بن الخطاب، وهو عمر بشحمه ولحمه ودمه، وإرادته وصدقه وعزيمته.
((سعيد بن عامر:
اختار عمر من الصحابة رجلاً فقيراً زاهداً مصلياً عابداً ليكون والياً على حمص.
وحمص بلد للمشاغبين، كل يوم ترتفع منها شكاية لعمر يشكون فيها العامل، يثلمون في العامل ولو كان ملكاً من الملائكة، أمة تحب الشكايات طبعاً، فأراد عمر أن يسكتهم في رجل لا مطعن فيه، فقال: يا سعيد بن عامر اذهب فقد وليتك على حمص.
قال: لن أتولى حمص لك، إني أخاف من الله.
قال عمر: هيه! تضعونها في عنقي وتتركونني! والله لتتولين حمص.
يعني: تجعلون الخلافة في عنقي مسئولية وأمانة وغرماً وكلفاً ثم تركونني، فهي ليست سعادة، إنها لمن لم يحسنها خيبة وندامة يوم القيامة.
فذهب، أتدرون ما هو متاعه، قالوا: صحفة وعصا وشملة، صحفة يغتسل ويتوضأ ويأكل طعامه فيها، وشملة ينام فيها ويجلس عليها، ويضيف ضيوفه على هذا الفراش، وعصا يتوكأ عليها ويهش بها على غنمه وله فيها مآرب أخرى.
ذهب إلى حمص، فاستقبله أهل حمص -يظنون أنه يبشر بالأمير، فأتى هذا ومعه صحفة وعصا وشملة وزوجته وراءه- قالوا: هل رأيت الأمير؟
قال: أنا الأمير.
قالوا: لا تستهزئ بنا! الأمير الذي أرسله عمر هل رأيته في الطريق؟
قال: أنا والله الذي لا إله إلا هو.
قالوا: وثيابك ثياب أمير!
قال: إني خرجت مأموراً من عمر ما أردت إمارة وما طلبتها.
وأتى إلى زوجته وقال: هل لك أن نتاجر في مالك وفي مالي؟ لأنها كانت تاجرة، قالت: وهل تعلم شريكاً يربحنا في التجارة؟