(إلى ما لا يريبك) أي اترك ما تشك فيه من الشبهات واعدل إلى ما لا تشك فيه من الحلال البين لما سبق أن من اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه قال القاضي: هذا الحديث من دلائل النبوة ومعجزات المصطفى صلى اللّه عليه وسلم فإنه أخبر عما في ضمير وابصة قبل أن يتكلم به والمعنى أن من أشكل عليه شيء والتبس ولم يتبين أنه من أي القبيلين هو فليتأمل فيه إن كان من أهل الاجتهاد ويسأل المجتهدين إن كان من المقلدين فإن وجد ما يسكن إليه نفسه ويطمئن به قلبه وينشرح صدره فليأخذ به وإلا فليدعه وليأخذ بما لا شبهة فيه ولا ريبة هذا طريق الورع والاحتياط.

(ومن ذلك ما إذا كان بينك وبين شخص محاسبة، وحصل زيادة لك من أجل هذه المحاسبة، وشككت فيها فدعها، وإذا شك فيها صاحبك وتركها فتصدق بها، تصدق بها تخلصاً منها، أو تجعلها صدقة معلقة؛ بأن تقول: اللهم إن كانت لي فهي صدقة أتقرب بها إليك، وإن لم تكن لي فهو مالٌ أتخلص بالصدقة به من عذابه.

(والحاصل أن هذا الحديث حديثٌ عظيمٌ في باب الورع: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)). ما تشك فيه أتركه وخذ بالشيء الذي لا يلحقك به قلق ولا شك ولا اضطراب.

(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح البخاري) قالت: كان لأبي بكرٍ الصديق رضي الله عنهُ، غلام يخرجُ لهُ الخرج وكان أبو بكرٍ يأكلُ من خراجه، فجاء يوماً بشيءٍ، فأكل منه أبو بكرٍ، فقال له الغلامُ: تدري ما هذا؟ فقال أبو بكرٍ؟ وما هو؟ قال: كنت تكهنت لإنسانٍ في الجاهلية وما أحسنُ الكهانةَ إلا أني خدعتهُ، فلقيني فأعطاني بذلك هذا الذي أكلت منهُ، فأدخل أبو بكرٍ يده فقاء كلَّ شيءٍ في بطنهِ.

وكان أبو بكر يخارجه: يعني يدعه يشتغل ويضرب عليه خراجاً معيناً، يقول: أئتِ لي كل يوم بكذا وكذا، وما زاد فهو لك.

وهذه المخارجة جائزة بالنسبة للعبيد، إذا كان الإنسان عنده عبيد وقال لهم: اذهبوا اشتغلوا وأتوني كل يوم بكذا وكذا من الدراهم وما زاد فهو لكم؛ فإن هذا جائز؛ لأن العبيد ملك للسيد، فما حصَّلوه فهو له سواء خارجهم على ذلك أم لم يخارجهم.

لكن فائدة المخارجة أن العبد إذا حصَّل ما اتفق عليه مع سيده فإن له أن يبقى من غير عمل، أن يبقى في طلب العلم، أن يبقى مستريحاً في بيته أو أن يشتغل ويأخذ ما زاد.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015