ثم إن الآيات الواردةَ في سياق التزهيد والحط من متاع الحياة الدنيا لا يقصد منها ترغيب الإنسان ليعيش مجانباً للزينة، ميت الإرادة عن التعلق بشهواته على الإطلاق.
وإنما يقصد منها حِكَمٌ أخرى، كتسلية الفقراء الذين لا يستطيعون ضرباً في الأرض، ومنْ قَصُرت أيديهم عن تناولها، لئلا تضيق صدورهم على آثارها أسفاً.
ومنها تعديل الأنفس الشاردة، وانتزاع ما في طبيعتها من الشَّرَه والطمع؛ لئلا يخرجا بها عن قصد السبيل، ويتَطَوَّحا بها في الاكتساب إلى طرق غير لائقة؛ فاستصغار متاع الدنيا، وتحقير لذائذها في نفوس الناس يرفعهم عن الاستغراق فيها، ويُكْبرُ بهممهم عن جعلها قبلة يولون وجوههم شطرها أينما كانوا.
ومتى عكف الإنسان على ملاذِّ الحياة، ولم يصْحُ قلبُه عن اللهو بزخارفها ماتت عواطفه، ونسي أو تناسى من أين تؤتى المكارم والمروءة، ودخل مع الأنعام في حياتها السافلة.
وبالجملة فإن تقوى الله عز وجل والإقبال عليه بالكلية هو أصل السعادة، وسرها، وكل سعادة بدون ذلك فهي مبتورة أو وهمية، وإن اجتمعت حولها أسباب السعادة الأخرى؛ فالسعادة ينبوع يتفجر من القلب لا غيث يهطل من السماء، والنفس الكريمة الراضية التقية الطاهرة من أدران الرذائل وأقذارها سعيدة حيثما حلت، وأنى وجدت: في القصر وفي الكوخ، في المدينة وفي القرية، في الأنس وفي الوحشة، في المجتمع وفي العزلة، بين القصور والدور وبين الآكام والصخور؛ فمن أراد السعادة الحقة فلا يسأل عنها المال والحسبَ، والفضة والذهب، والقصور والبساتين، والأرواح والرياحين.
بل يسأل عنها نفسه التي بين جنبيه؛ فهي ينبوع سعادته وهنائه إن شاء، ومصدر شقائه وبلائه إن أراد (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) [الشمس: 9_10]
وما هذه الابتسامات التي تُرى متلألأة من أفواه الفقراء والمساكين، والمحزونين والمتألمين؛ لأنهم سعداء في عيشهم، بل لأنهم سعداء في أنفسهم.
وما هذه الزفرات التي تُسمع متصاعدة من صدور الأغنياء والأثرياء وأصحاب العظمة والجاه؛ لأنهم أشقياء في عيشهم، بل لأنهم أشقياء في أنفسهم.
وما كدَّر صفاء هذه النفوس، وأزعج سكونها وقرارها، وسلبها راحتها وهناءها مثلُ البعد عن الله عز وجل.