وكان صوت الشيخ - قدس الله روحه - يشير [لما] وصلت إليه حاله من تدهور في الصحة العامة، ونحول شديد في جسمه نقله عنه كل من رآه، لا سيما وأن مرض السرطان - أجارنا الله وإياكم - معروف عنه أنه يسبب آلاماً رهيبة ومبرحة للمصاب به لا يمكن التغلب عليها إلا بجرعات كثيرة من دواء مخدر (كالمورفين)، ولا أشك في أن الشيخ - قدس الله روحه - وكما سمعنا أيضا - قد رفض تعاطي ذلك الدواء وآثر الاحتساب فعلى الله أجره ولله الأمر من قبل ومن بعد ..
كنت أستشف من خلال صوت الشيخ مقدار ما يعانيه، ولكنه كان مصرّاً على إلقاء درسه كالعادة حتى لو لم يستمر إلا ثلث ساعة أو أقل من ذلك، [وعندما] تشتد وطأة المرض عليه يغيب عن الحرم .. وقد افتقدناه حوالي أربعة أيام من الشهر لشدة ما ألم به، ثم عاد ونحن بين خوف ورجاء ..
كان درس ليلة الثلاثين درساً عجيباً مفرحاً ومحزناً اختلطت فيه الفرحة بالخوف، واختنقت فيه العبرات .. !!
كانت الفرحة بسماع صوت الشيخ المُتعب وتمثل الفرح في أنني تأكدت من كذب خبر وفاته المشاع يومها ..
بدأ الشيخ بالحديث بصوت أثقلته الآلام، فتحدث عن العيد وأن الله سبحانه وتعالى جعل للمسلمين ثلاثة أعياد - الأضحى والفطر والجمعة - حق للمسلمين أن يفرحوا فيها بما أنعم الله عليهم من توفيق للأعمال الصالحة، وفصّل فيها قليلا، ثم انتقل إلى الإجابة على الأسئلة ..
وقد أطال الشيخ - قدس الله روحه - درسه تلك الليلة على غير ما اعتدناه في هذه السنة من اختصار حتى أن الدرس في الأيام السابقة لذلك اليوم ربما لم يكد يستغرق العشرين دقيقة، إلا أن الدرس الأخير أخذ أكثر من خمس وثلاثين دقيقة أجاب فيه - قدس الله روحه - على أسئلة كثيرة .. !!
ثم اقتربت النهاية، وتسارعت الأنفاس، واضطربت نبضات القلوب خوفاً من أن هذا الدرس ربما يكون آخر العهد بشيخنا الحبيب الذي طالما ارتوينا من معينه، واستنرنا بنور علمه وفقهه!!
لا أدري كيف كان حال من حولي حيث أخذت أتخيل أننا ربما لا نلقى حبيبنا بعد عامنا هذا بل بعد درسنا هذا!!
لا أدري عما كانت آخر الفتاوى لانشغال الفكر بالتفكير في أن هذا ربما كان آخر العهد، ولكن سرعان ما انتبهت على انتهاء الأسئلة وقال الشيخ بعدها قولة حُفرت في الذاكرة!!
نعم لا زلت أذكر آخر كلمات نطق بها الشيخ فأوشك على البكاء وأبكى من استمع له .. !!