ولو قيل: ساكنًا- والليل يجوز أن يوصف بالسكون على الحقيقة، ألا ترى إلى قولهم:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ولو قيل: ساكنًا ... لم يتميز الحقيقة من المجاز)، وذلك أن "ساكنًا" يجوز حمله على الحقيقة كما قال، ويجوز حمله على المجاز. ولو قيل: " ساكنًا" لبقي اللفظ دائرًا بين المعنيين أحدهما المقصود- وهو إرادة المجاز- إذ المراد أن يكون الناس في الليل ساكنين، والآخر غير مقصود- وهو إرادة الحقيقة_ فوجب التصريح بقوله: "لتسكنوا" لئلا يلتبس الغرض.
قال صاحب "الفرائد": قوله: {اللَّيْلَ} يجوز أن يوصف على الحقيقة بالسكون منظور فيه لأن إضافة السكون إلى الليل باعتبار أنه لا ريح فيه، فالسكون للريح في الحقيقة لا لليل، ولا يلزم من قولهم: "ليل ساج وساكن" أن يكون السكون لليل حقيقة، فليتأمل.
والجواب: أن من المجاز ما يسبق منه إلى الفهم بحسب كثرة الاستعمال معنى المنقول إليه لا المنقول منه، فإذا قلت: "جعل الليل ساكنًا" لم يتبادر منه سكون الريح، بل يفهم منه هدوؤه، وعلى تقدير جواز المجاز لا يتم المقصود؛ لأن القصد أن ينتقل الإسناد من الإنسان إليه، كما في {والنَّهَارَ مُبْصِرًا} لا من الريح.
هذا وإن كلام المصنف مدخول فيه من جهة أخرى؛ لأنه كان ينبغي له أن يبين فائدة الاختلاف، لأنه لو قيل: " ساكنًا" لم تتبين الحقيقة من المجاز، على أنه لو أريد ب"ساكنًا" الإسناد المجازي لم يلتبس لقرينة التقابل، وهو كثيرًا يسلك هذا المسلك، والفائدة فيه أن الكلام وارد على الامتنان، والامتنان بجعل النهار مبصرًا أدخل من جعل الليل لتسكنوا؛ لأن رغبة الناس في ابتغاء الفضل والتهيؤ للمعاش في النهار أكثر من النوم في الليل، فعدل في إحدى القرينتين من الظاهر، وقال: {مُبْصِرًا} بدل "لتبصروا فيه" للمبالغة، وترك الأخرى على الظاهر لهذه الدقيقة، ومن ثم جاء في موضع آخر: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} [النبأ: 10 - 11]، والسبات: الموت. روي عن أبي الهيثم أنه قال: المناسب أن ينسب السكون إلى الليل؛ لأن الحركة إما حركة طبع أو اختيار، وحركة الطبع من الحرارة، وحركة الاختيار من الخطرات المتتابعة بسبب الحواس، فخلق الليل باردًا مظلمًا.