فوقنا مغوين أغرونا بقسرٍ منهم وإلجاء. أو دعونا إلى الغىّ وسوّلوه لنا، فهؤلاء كذلك غووا باختيارهم؛ لأن إغواءنا لهم لم يكن إلا وسوسةًًً وتسويلاً لا قسراً وإلجاءً، فلا فرق إذا بين غينا وغيهم. وإن كان تسويلنا داعياً لهم إلى الكفر، فقد كان في مقابلته دعاء الله لهم إلى الإيمان بما وضع فيهم من أدلة العقل، وما بعث إليهم من الرسل, وأنزل عليهم من الكتب المشحونة بالوعد والوعيد والمواعظ والزواجر، وناهيك بذلك صارفاً عن الكفر وداعياً إلى الإيمان, وهذا معنى ما حكاه الله عن الشيطان (إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) [إبراهيم: 22] والله عزّ وجلّ قدّم هذا المعنى أوّل شيء، حيث قال لإبليس (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) [الحجر: 42]. (تَبَرَّانا إِلَيْكَ) منهم ومما اختاروه من الكفر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قولُه: (ناهيكَ بذلكَ صارفًا)، عنْ بعضِهم: نَاهِيكَ ونَهاكَ ونَهْيُك؛ أي: حَسْبُك، يُقال: هذا رجلٌ ناهِيكَ مِنْ رَجُل، وأَنْهاكَ مِنْ رَجُل. وتأويلُهُ أنهُ بِجِدِّهِ وغَنائِهِ يَنْهاكَ عنْ تَطَلُّبِ غيرِه. قال:
هوَ الشيخُ الذي حدّثْتَ عنه ... نهاكَ الشيخُ مكرمةً وفخرَا
وهذه امرأةٌ ناهيكَ مِنَ امرأة؛ تُذكّرُ وتُؤنّث، وتُثَنى وتُجمَع؛ لأنهُ اسمُ فاعل. وإذا قلتَ: نَهْيُكَ مِنْ رَجُل، كما تقول: حَسْبُكَ مِنْ رَجُل؛ لَمْ تُثَنّ ولَمْ تُجْمَع؛ لأنهُ مصدر. وتقولُ في المعرفة: هذا عبدُ الله ناهيكَ مِنْ رَجُل؛ فتَنْصِبُ ((ناهيك)) على الحال.
قولُه: (والله تعالى قدّمَ هذا المعنى)، وهوَ أنّ إغواءَ الشيطانِ لمْ يكنْ إلا وَسْوَسةً وتسويلاً، لا قَسْرًا وإلجاءً.
قولُه: (أول شيء)، أي: أولُ قصةٍ حكاها عنْ إبليس، كقولِه تعالى: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيّكُم مِن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لي} [إبراهيم: 22].