الحَقِّ أئمّةً دُعاةً إلى الجنّة. وهو مِن قولِك: جعلَهُ بخِيلاً وفاسِقًا، إذا دعاهُ وقال: إنَّه بخيلٌ وفاسقٌ. ويقولُ أهلُ اللُّغةِ في تفسيرِ فسَّقَهُ وبَخَّلَهُ: جعلَه بخِيلاً وفاسقًا. ومنه قولُه عزّ وعَلا: {وَجَعَلُوا المَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزخرف: 19] ومعنى دعوَتِهم إلى النّار: دعوتُهم إلى موجِباتِها من الكُفْرِ والمعاصِي. {وَيَوْمَ اَلْقِيَامَةِ لاَ يُنصَرُونَ} كما يُنْصَرُ الأئِمّةُ الدُّعاةُ إلى الجنّة. ويجوز: خَذَلناهُم حتّى كانُوا أئمّةَ الكُفر. ومعنى الخُذلان: منعُ الألطاف، وإنّما يُمنَعُها من عُلِمَ أنَّها لا تنفَعُ فيه، وهو المُصمِّمُ على الكُفْرِ الذي لا تُغني عنهُ الآياتُ والنُّذُر، ومُجراهُ مُجرى الكِناية؛ لأنَّ منعَ الألطافِ يَردَفُ التَّصميم، والغرضُ بذِكْرِه: التَّصميمُ نفسُه، فكأنَّه قيل: صمَّمُوا على الكُفْرِ حتّى أئمّةً فيه، دُعاةً إليه وإلى سُوءِ عاقِبَتِه.
فإن قلت: وأيُّ فائدةٍ في تَرْكِ المَردُوف إلى الرّادِفة؟ قلت: ذِكرُ الرّادِفةِ يدُلُّ على وُجودِ المردُوف؛ فيُعلمُ وجودُ المَردُوفِ مع الدَّليلِ الشّاهدِ يوجُودِه، فيكونُ أقوى لإِثباتِه من ذكرِه. ألا ترى أنَّك تقول: لولا أنَّه مُصَمِّمٌ على الكُفر، مقطوعٌ أمرُه، مبتوتٌ حكمُه؛ لما مُنِعتْ منهُ الأَلطاف، فبذِكرِ منعِ الألطافِ يحصُلُ العِلمُ بوجودِ التَّصميمِ على الكُفرِ وزيادةٌ؛ وهو قيامُ الحُجّةِ على وجُودِه. وينصرُ هذا الوَجْهَ قولُه: {وَيَوْمَ اَلْقِيَامَةِ لاَ يُنصَرُونَ}
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قولُه: (ويجوزُ: خذلناهُم حتى كانوا أئمةَ الكُفر)، الوجهُ الأوّلُ قولُ الجُبّائي، وهذا قولُ الكعبي. يريدُ: أنّ مُؤدّي قولِه: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً} مِنْ حيثُ التأويلِ إلى هذا المعنى؛ وهو: خذلناهُم حتى كانوا أئمة. وإنما قالَ: ((وإنما يمنعُها مِنْ عَلِمَ أنها لا تَنْفَعُ)) بناءً على أنّ رعايةَ الأصلحِ واجبة، وهوَ مَنْحُ الألطاف. وهُمْ إنما خُذِلوا ومُنِعَ عنهُم الألطافُ مِنْ جِهَةِ أنفُسِهِم؛ وهوَ تصميمُهم على الكفر. ورَجَعَ معنى قولِه: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً} إلى قولِه: ((صَمّمُوا على الكُفْر))؛ لأنهُ رديفُهُ ولازمُه؛ فيكونُ {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً} كنايةً عنْ ((صَمّمُوا على الكُفر)). ولَعَمْري إنّ هذا التعسُّفَ لا يركَبُهُ إلا مَنْ عَمِيَ عنهُ الجادّة.
قولُه: (وينصُرُ هذا الوجه- أيْ: أنّ المراد: خذلناهم- قولُه: { .... لاَ يُنصَرُونَ})؛ فإنهُ مِنْ بابِ ردِّ العَجُزِ على الصدرِ مِنْ حيثُ المعنى؛ لأنّ الخُذلانَ هوَ عدمُ النُّصْرة.