كأنه قيل: وخَذَلناهُم في الدُّنيا، وهم يومَ القِيامةِ مخذُولُون، كما قال: {وَأَتْبَعَنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} أي: طردًا وإبعادًا عن الرَّحمة {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ} أي: من المَطرُودِينَ المُبْعَدِين.
[{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} 43]
{بَصَائِرَ} نصبٌ على الحال. والبصيرَةُ: نَورُ القلبِ الذي يَسْتَبصِرُ به، كما أنَّ البصرَ نورُ العَيْنِ الذي تُبصِرُ به، يريد: آتيناهُ التَّوراةُ أنوارًا للقلوب؛ لأنّها كانت
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقلتُ: ويمكنُ أنْ يُقال: وجعلناهُم في الدنيا قادةً رؤساءَ أقوياءَ ذَوِي سَلْطَنةٍ وغَلَبة، وانقلبَ في الآخرةِ الأمرُ فصارت تلكَ القدرةُ عَجْزًا، والتقدُّمُ نكوصًا؛ فلا ينصُرُهُم مِنْ ذلكَ ناصِر، {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} أي: هلاكًا بالغَرَق، وبُعدًا عنْ رحمةِ الله. أو: لسانَ سُوءٍ بأنْ يلعنَهُمُ اللاعنونُ إلى قيامِ الساعة، {وَيَوْمَ القِيَامَةِ هُم مِنَ المَقْبُوحِينَ}.
قولُه: ({هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ} أي: مِنَ المطرودِينَ المُبعَدين)، عبَّرَ عنِ الطردِ والبُعدِ بالقُبْح؛ إذْ لا ارتيابَ أنهُ لمْ يُرِدْ قُبْحَ الصورة؛ فإذنْ الآيةُ على وزانِ قولِهِ تعالى: {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ, لَعْنَةً وَيَوْمَ القِيَامَةِ بِئْسَ الرِفْدُ المَرْفُودُ} [هود: 99].
روى مُحيي السُّنةِ عن ابنِ عباس: مِنَ المشوّهِينَ بسَوادِ الوجهِ وزُرْقةِ العيون؛ يُقال: قَبَحَهُ الله وقَبَّحَه؛ إذا جعلَهُ قبيحًا، وقَبَحَهُ قَبْحًا وقُبُوحًا؛ إذا أبْعَدَهُ مِنْ كُلِّ خير.
قولُه: (آتيناهُ التوراةَ أنوارًا للقلوب)، أي: مُشابهًا لأنوارِ القلوب؛ شَبّهَ التوراةَ بالأنوارِ التي تَستَبْصِرُ بها القلوب؛ فتعرِفُ بها حقيقةَ الأشياءِ فكَما أنّ فاقِدَ هذهِ الأنوارِ خابِطٌ في ظلماءِ التعسُّف؛ كذلكَ فاقدُها واقعٌ في مَهْواةِ الضلالة، تائهٌ في بيداءِ الكُفْر. فقولُه: ((لأنها كانتْ عمياء)) تعليلٌ وجعلَ {بَصَائِرَ} وصفًا لـ {الْكِتَابَ}. ولذلكَ كانَ قولُه: ((لأنهم كانوا يخبطون)) تعليلاً لقولِه: ((إرشادًا))؛ يعني: إنما أَوقعَ {بَصَائِرَ} حالاً مِنَ