فَلِمَ اختُصّتْ خاتمتُها بالخَيْرِ بهذه التَّسميةِ دُونَ خاتِمتِها بالشَّرِّ؟ قلتُ: قد وضَعَ الله سبحانَه الدُّنيا مجازًا إلى الآخرة وأراد بعبادِه أن لا يعمَلُوا فيها إلاّ الخير، وما خلَقَهُم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قولُه: (الدنيا مجازًا إلى الآخرة)، أي: موضعُ الجوازِ وممرٌّ إلى الآخرة.
قولُه: (وأرادَ بعباده أنْ لا يعملوا فيها إلا الخير)، وهوَ مدفوعٌ بقولِه: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ اَلنَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} [هود: 118]. قالَ مُحيي السُّنة: {وَمَن تَكُونُ لَهُ, عَاقِبَةُ الدَّارِ} أي: العُقْبى المحمودة.
وقلتُ: لعلّ معنى كونِها محمودةً أنها مُقتَرِنةٌ بقولِه: {لَهُ,}؛ فلَوْ قيل: ((عليه)) أو ما يجري مَجْراها -كما سيجيءُ بُعَيْدَ هذا {فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةً الظَّالِمِينَ} - لانْقَلَبَتْ إلى السُّوء، ولوْ يُقيِّدْها بأحدِهِما جازَ أنْ تُقيّدَ بالمحمودة أو بالسُّوء.
الانتصاف: أما وَجْهُ العاقبةِ المطلَقةِ وإرادةِ الخيرِ بِها فهوَ أنّ الله هدى الناسَ إليها ووعدَهُمْ ما في سُلوكِها مِنَ النجاةِ- إذ هي المأمُور بها، وعوملت معاملةَ ما هو مراد، وإن لم تكن مرادة- والنعيم، ونهاهُمْ عَنْ ضِدِّها وتَوَعّدَ عليهِ بالعقابِ الأليم، وركّبَ فيهِمْ عقولاً تُرشِدُهمْ إلى عاقبةِ الخير، وأزاحَ عِللهم؛ فكانَ مِنْ حَقِّهِمْ أنْ يَسلُكُوا طريقَ الخير، وأنْ يَجعلُوها نُصْبَ أَعيُنِهِم؛ فأُطلِقَتِ العاقبةُ للخيرِ لذلك؛ إذْ هيَ المأمورُ بها، وعُومِلَتْ معامَلَةَ ما هوَ مرادٌ وإنْ لَمْ تكُنْ مُرادة. ثُمّ قال: ((لولا قولُه تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ اَلدَّارِ} [الرغد: 25] لقُلْتُ: استعمالُ اللامِ هوَ الدالُّ على كونِها خيرًا، واستعمالُ ((عليهم)) على كونِها شَرًّا)).
وقلتُ: الآيةُ غيرُ مانِعةٍ عنْ ذلك؛ فإنّ قرينةَ اللعنةِ والسُّوءِ مانِعةٌ عنْ إرادةِ الخير، وإنّما أتى بـ {لَهُ,} ليُؤذِنَ أنّهُما حقّانِ ثابتانِ لهُمْ لازمانِ إياهم. ويَعْضُدُهُ التقديمُ المفيدُ للاختصاص.