{سِحْرٌ مُّفْتَرًى} سِحْرٌ تعمَلُه أنتَ، ثمّ تفتَرِيهِ على الله. أو: سحرٌ ظاهرٌ افتِراؤُه. أو: موصوفٌ بالافتراءِ أنواعِ السِّحرِ، وليسَ بِمُعجزةٍ من عندِ الله. {فِي آبَائِنَا} حالٌ منصوبةٌ عن هذا، أي: كائنًا في زمانِهِم وأيّامِهِم، يريدُ: ما حُدِّثْنا بكَونه فيهم، ولا يخلو من أن يكُونُوا كاذِبِينَ في ذلك، وقد سمِعُوا وعَلِمُوا بنَحْوِه. أو يريدوا أنَّهم لم يسمَعُوا في فَظاعتِه. أو: ما كانَ الكُهّانُ يُخبِرُون بظُهورِ مُوسى ومجيئهِ بما جاءَ به. وهذا دليلُ أنَّهم حُجُّوا وبُهِتُوا، وما وَجَدُوا ما يدفَعُون به ما جاءَهم من الآيات إلاّ قولهم: هذا سحرٌ وبِدْعةٌ لم يسمعوا بمِثْلِها.
[{وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} 37]
يقولُ: {رَبِّي أَعْلَمُ} منكم بحالِ مَن أَهَّلَهُ الله للفَلاحِ الأَعْظمِ، حيث جعلَه نبيًّا وبَعَثَهُ بالهُدى، ووَعَدَهُ حُسنَ العُقبى: يعني نفسَه، ولو كانَ -كما تزعمُون- كاذبًا ساحِرًا مُفتَرِيًا لما أهَّلَهُ لذلك؛ لأنّه غنِيٌّ حَكِيمٌ لا يُرسِلُ الكاذِبِينَ، ولا يُنَبِّئُ السَّاحِرِينَ، ولا يُفلِحُ عندَه الظّالمون. و {عَاقِبَةُ اَلْدَّارِ} هي العاقبةُ المحمودةُ. والدَّلِيلُ عليه قولُه تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى اَلدَّارِ* جَنَّاتُ عَدْنٍ} وقولُه: {وَسَيَعْلَمُ اَلْكُفَّارُ لِمَن عُقْبَى اَلْدَّارِ} [الرعد: 42]، والمُرادُ بالدّارِ: الدُّنيا، وعاقِبتُها وعُقباها: أن تُختَمَ للعبدِ بالرَّحمةِ والرِّضوان وتَلَقِّي الملائكةِ بالبُشرى عندَ الموَت. فإن قلتَ: العاقبةُ المحمودةُ والمذمومةُ؛ كِلْتاهُما يصحُّ أنْ عاقبةَ الدّار؛ لأنَّ الدُّنيا إمّا أن تكون خاتِمتُها بخيرٍ أو بشرٍّ،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قولُه: (أو موصوفٌ بالافتراءِ كسائرِ أنواعِ السِّحْر)، هذا بناءٌ على مذهبِهِ أنّ السِّحْرَ لا أَثَرَ في لهُ في نفسِه، وأنهُ حِيلةٌ وتَمْويه؛ كما نَصّ عليهِ في البقرةِ عندَ قولِه: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة: 102]. فعلى هذا الوجهِ {مُّفْتَرًى} باقٍ على إطلاقِه، وهوَ صفةٌ مؤكِّدة، وعلى الوجهِ الأولِ صفةٌ مُخصّصةٌ مُقيّدةٌ بما ذكَره؛ أي: ما جئتَ بهِ ليسَ بمُعجِز؛ بلْ هوَ سِحْرٌ تفتريهِ أنتَ على الله، أو: ليسَ بمُعجِز؛ بلْ هوَ سحرٌ ظاهرٌ غيرُ خافٍ على أحد.