عندَ انقلابِ العصا حيّةً حتى لا يضطربَ ولا يرهَب؛ استعارةٌ من فعلِ الطّائر؛ لأنَّه إذا خافَ نشَرَ جناحَيْهِ وأرخاهُما. وإلاّ فجناحاه مضمومان إليه مُشَمَّران. ومنه ما يُحكي عن عمرَ بنِ عبدَ العزيزِ رحمهُ الله أنَّ كاتِبًا له يكتبُ بينَ يدَيْه، فانْفَلَتَتْ منه فَلْتَةُ رِيحٍ، فخَجِلَ وانكَسَر، فقامَ وضربَ بقَلَمِه الأرضَ، فقالَ له عمرُ: خُذ قَلَمَك، واضمُمْ إليك جناحَك، وليُفْرِخ رَوْعُك، فإنِّي ما سمِعْتُها من أحدٍ أكثرَ ممّا سمِعْتُها من نفسِي.
ومعنى قولِه: {مِنَ اَلْرَّهْبِ} من أجلِ الرَّهْب، أي: إذا أصابَكَ الرّهبُ عندَ رُؤيةِ الحيّةِ فاضمُمْ إليك جناحَك: جُعِلَ الرَّهَبُ الّذي كان يصيبُه سببًا وعِلّةً فيما أُمِرَ به من ضَمِّ جناحِه إليه. ومعنى: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ}، وقولِه: {أسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} على أحَدِ التَّفسِيرَينِ: واحدٌ؛ ولكن خُولِفَ بينَ العِبارَتَيْن، وإنِّما كُرِّرَ المعنى الواحدُ لاختلافِ الغَرَضَيْن؛ وذلك أنَّ الغرضَ في أحَدِهِما خروجُ اليَدِ بيضاءَ وفي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الطائرِ عندَ هذهِ الحالةِ، ثُمّ كَثُرَ استعمالُهُ في التجلُّدِ وضَبْطِ النفسِ حتى صارَ مثلاً فيهِ وكنايةً عنه؛ فعلى هذا يكونُ تتميمًا لمعنى {إِنَّكَ مِنَ اَلْأَمِنِينَ}.
قولُه: (وليُفْرٍخْ رَوْعُك)، الأساس: ومِنَ المجاز: أَفْرَخَ رَوْعُك؛ أي: خلا قلبُكَ مِنَ الهَمِّ خُلُوّ البَيْضةِ مِنَ الفَرْخ، هذا ظاهر. وأما ((أفرخ روعك)) فمَنْ رواهُ بالفتح فوجهُهُ أنْ يُرادَ زوالُ ما يتوقعُهُ المُرْتاع؛ فإذا زالَ انقلبَ الرّوْعُ أمنًا. جَعَلَ زوالَ المتوقّعِ الذي هوَ مُتعلّقُ الرّوْع بمنزلةِ الفَرْخِ مِنَ البيضة، وكَثُرَ حتى صارَ في معنى الكشفِ والزوال.
قولُه: ((على أحد التفسيرَيْن)، وهوَ الوجهُ الأوّل؛ لأنّ المعنى على ما سَبَق: فأَدْخِلْ يدَكَ اليُمنى تحتَ عَضُدِكَ اليُسرى؛ فخُولِفَ بيْنَ العبارتَيْنِ بأنْ ذَكَرَ اليدَ أوّلاً والجناحَ ثانيًا، وإنما كرّرَ المعنى الواحدَ لِيُناطَ بكُلِّ مرّةٍ معنَى مُخالِف. وعلى الوجهِ الثاني قولُه: {أسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} مُجْرى على حقيقتِهِ كما في الأوّل؛ لكنّ قولَه: {وَأضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} كنايةٌ عنِ التجلُّدِ والتشدُّد.