وعن ابنِ عباسٍ رضيَ الله عنه: أنّ شُعيبًا أحفَظَتْه الغَيرةُ فقال: وما علمُكِ بقُوَّتِه وأمانتِه؟ فذَكرتْ إقلالَ الحجَرِ ونَزْعَ الدَّلو، وأنّه صوَّبَ رأسَه حتّى بلغَتهُ رسالَتَه، وأمَرَها بالمَشْيِ خلفَه. وقولُها: {إنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَثْجَرْتَ اَلْقَوِيُّ اَلْأَمِينُ}: كلامٌ حكيمٌ جامعٌ لا يُزادُ عليه؛ لأنّه إذا اجتمعتْ هاتانِ الخَصلتان؛ أعني الكفايةَ والأمانةَ في القائمِ بأمرِك فقد فَرَغَ بالُك وتمّ مُرادُك. وقد استَغْنَت بإرسالِ هذا الكلام الذي سياقُه سياقُ المَثَل والحِكمةِ أن تقولَ: استأجِرْهُ لقُوّتِه وأمانتِه. فإن قلتَ: كيف جُعِلَ {خَيْرَ مَنِ اَسْتَئْجَرْتَ} اسمًا لـ {إِنَّ} و {اَلْقَوِيُّ اَلْأَمِينُ} خبرًا؟ قلتُ: هو مِثلُ قولِه:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قولُه: (أحْفَظَتْهُ الغَيْرة)، الجوهري: الحَفِيظة: الغَضَب، وكذلكَ الحِفْظةُ بالكسر.
قولُه: (وقدِ استَغْنَتْ بإرسالِ هذا الكلام)، إشارةٌ إلى أنّ هذا الكلامَ معَ كونِهِ مِنَ الجَوامِعِ هوَ أيضًا دليلٌ على إثباتِ هذا المُدّعي؛ لأنّ الحُكْمَ أنّ مَنْ فيهِ هاتانِ الخُصلَتانِ فهوَ صالحٌ للاستِئجار، وقدْ شوهِدَ فيهِ ذلك؛ فوَجَبَ أنْ يُختارَ لذلك، فذَكَرَ الدليلَ العامّ وتركَ الخاصّ لاستغنائِهِ عنه؛ لأنّ الكلامَ سِيقَ له.
قولُه: (سياقُهُ سياقُ المَثَل)، أي أنّ قولَه: {خَيْرَ مَنِ اَسْتَئْجَرْتَ اَلْقَوِيُّ اَلْأَمِينُ} لعمومِهِ صارَ مثلاً.
قولُه: (كيفَ جعلَ {خَيْرَ مَنِ اَسْتَئْجَرْتَ} اسمًا؟ )، وخُلاصتُهُ أنّ المعرّفَ باللامِ أَوْغَلُ في التعريفِ مِنَ المضاف. وقيل: إنّ المضمَرَ أَعْرَفُ المعارف؛ لأنّ الشيءَ لا يُضمَرُ إلا وقدْ عُرِف، فهوَ بمنزلةِ وضعِ اليد؛ فلذا لا يُوصَفُ كسائِرِ المعارف، ثُمّ العَلَم؛ لأنّهُ موضوعٌ على شَيءٍ بعينِه، ثُمّ المُبْهَم؛ لأنّهُ يُعرَفُ بالعينِ والقلبِ نحوُ: هذا؛ للحاضر، ثُمّ المُحَلّى باللام؛ لأنّهُ يُعرَفُ بالقلبِ لا غير، ثُمّ المضاف؛ لأنّ تَعرُّفَه مِنْ غيرِه. ويمكنُ أنْ يُقال: إنّ {مَنِ اَسْتَئْجَرْتَ} موصولةٌ، وهوَ أعرَفُ مِنَ المعرّفِ باللام، ولَمّا أُضيفَ إليهِ ((أَفْعَل)) امتَزَجا. وقالَ هذا القائل: إنّ المضافَ لَمّا نُزِّلَ مَنزِلةَ التنوينِ مِنَ المضافِ صارَ بمنزلةِ شيءٍ واحد، فلما