لنا من تأخِيرِ السَّقْيِ إلى أنْ يَفرَغُوا، ومالنا رَجُلٌ يقومُ بذلك، وأبونا شيخٌ قد أضعَفَهُ الكِبَر؛ فلا يَصْلُحُ للقِيامِ به: أبْلَتا إليهِ عُذْرَهُما في تولِّيهِما السَّقْيَ بأنفُسِهِما. فإن قلت: كيف ساغَ لنبيِّ الله الذي هو شُعيبٌ عليه السَّلامُ لأن يَرْضى لابنَتَيهِ بسَقْيِ الماشية؟ قلتُ الأمرُ في نفسِه ليسَ بمَحْظور؛ فالدِّينُ لا يأباه. وأمّا المروءة، فالنّاسُ مختلفون في ذلك، والعاداتُ مُتَبايِنةٌ فيه، وأحوالُ العربِ فيه خِلافُ أحوالِ العَجَم، ومذهبُ أهلِ البَدْوِ فيه غيرُ مذهبِ أهلِ الحَضَر، خُصوصًا إذا كانتِ الحالةُ ضَرورة. {إِنِّي} لأيِّ شيءٍ {أَنْزَلْتَ إِلَيَّ} قليلٍ أو كثيرٍ، غثٍّ أو سَمِينٍ لَ {فَقِيرٌ}؛ وإنّما عُدِّيَ {فَقِيرٌ} باللاّم؛ لأنّه ضمنَ معنى سائلٍ وطالب. قيل: ذَكَرَ ذلك وخضرةُ البَقْلِ تَتراءى في بطنِه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فإنْ قلتَ: فَلِمَ عَدَلَ عنِ السؤالِ الظاهرِ إلى قولِه: ما مخطوبُكما؟ أي: ما مطلوبُكما من الذِّياد؟ قلتُ: مقصودُ نَبيِّ الله مِنْ قولِه: ما مطلوبُكما مِنَ الذياد؟ أنْ يُجابَ بطلبِ المعونةِ منه؛ لكرمِهِ ورحمتِهِ على الضعفاء. ولمّا كانتا مِنْ بيتِ النُّبُوّة؛ حَمَلْنا قولَه على ما يُجابُ عنهُ بالسّبَب، وفي ضِمنِهِ طلبُ المعونة؛ لأنّ إظهارَهُما العَجْزَ ليسَ إلا لذلكَ، هذا وإنهُ ليسَ في الكلامِ ما يدلُّ على ضعفِهِما؛ بلْ فيهِ أَماراتٌ على حيائِهِما وسترِهِما كما سَبَقَ في بيانِ اختلافِ القراءتَيْنِ في ((يصدر)). وكذا قولُه: {فَجَآءَتْهُ إحْدَيهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَآءٍ} على أنهما قالتا: {لاَ نَسْقِي} دون: لا نقدِرُ على السقي. ومعنى {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ}: أنّا معَ حيائنا إنما تصدّيْنا لهذا الأمر؛ لِكِبَرِهِ وضعفِه، وإلا كانَ عليهِ أنْ يتولاه.
قولُه: (أَبْلَتا إليه عُذْرَهُما)، الأساس: أبْلَيْتُه عذرًا؛ إذا بَيّنْتَهُ لهُ بيانًا لا لَوْمَ عليكَ بَعدَه.
وحقيقتُهُ: جَعَلْتُهُ بالِيًا بِعُذْري؛ أي: خابرًا لهُ عالمًا بكُنْهِه.
قولُه: (تتراءى في بطنِه)، الأساس: تراءى الجمعان، وتراءتْ لنا فُلانة: تصدّتْ لنا لِنَراها، وعلى وجهِهِ رُواءُ الحُمْق؛ وهوَ ما يُرى عليهِ مِنْ آياتِهِ البيِّنةِ التي لا تَخفى على الناظِرِ كأنها تتكلّمُ بهِ وتنادي عليه.