قلت: ما كان طلب الرؤية إلا ليبكت هؤلاء الذين دعاهم سفهاء وضلالاً، وتبرأ من فعلهم، وليلقمهم الحجر، وذلك أنهم حين طلبوا الرؤية أنكر عليهم وأعلمهم الخطأ، ونبههم على الحق، فلجوا وتمادوا في لجاجهم وقالوا: لا بُدَّ، ولن نؤمن لك حتى نرى الله جهرةً، فأراد أن يسمعوا النص من عند الله باستحالة ذلك، وهو قوله: (لَنْ تَرانِي)، ليتيقنوا وينزاح عنهم ما دخلهم من الشبهة، فلذلك قال: (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ما كان طلب الرؤية إلا ليبكت هؤلاء): الروايات كلها مفتريات، وليس هذا بأول مكابرته، لأن القوم لم يحضروا هذه النوبة، وإنما طلب موسى عليه السلام الرؤية لنفسه، وفي النوبة الثانية كان القوم معه، وطلبوا الرؤية فأجابهم، كما سنقرر هذا عند قوله تعالى: (واخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً) [الأعراف: 155].
وقال صاحب "الفرائد": "إن قوله: (أرني أنظر إليك) كان وقت مجيئه للميقات، وتكليمه لله تعالى مطلق. وما ذكره من قوله: "ما كان طلب الرؤية إلا ليبكت هؤلاء" مقيد، ولا دليل في هذه الآية على هذا القيد، فكان هذا حملاً للمطلق على المقيد من غير دليل، وهو باطل، لأنه خروج عن الأصل بغير ضرورة.
وأيضاً، لو كان مراده من سؤال الرؤية بيان الاستحالة من الله، ليكون نصاً منه لاستحالتها، لوجب أن يقال: لن أرى، أو: لم تجز رؤيتي، إذ كانت ممتنعة، ليتضح لهم أنه تعالى ليس بجائز الرؤية، ويحصل المقصود؛ لأن (لن ترانى) ليس إلا تأكيد النفي، ولم يلزم منه عدم الجواز.