فإن قلت: كيف طلب موسى عليه السلام ذلك، وهو من أعلم الناس بالله وما يجوز عليه وما لا يجوز، وبتعاليه عن الرؤية التي هي إدراك ببعض الحواس، وذلك إنما يصحّ فيما كان في جهة، وما ليس بجسمٍ ولا عرضٍ فمحالٌ أن يكون في جهة، ومنعُ المجبرة إحالته في العقول غير لازم، لأنه ليس بأوّل مكابرتهم وارتكابهم، وكيف يكون طالبه وقد قال - حين أخذت الرجفة الذين قالوا: أرنا الله جهرة -: (أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) [الأعراف: 155] إلى قوله: (تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ) [الأعراف: 155]، فتبرأ من فعلهم ودعاهم سفهاء وضلالاً؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فإذن معنى قوله: (أرني أنظر إليك) أن المانع من الرؤية كوني غير متمكنٍ منها، لاحتجابك عني، فارفع الحجا بيني وبينك، لأنظر إليك وأراك، وذلك حين سمع الخطاب والكلام القديم بغير واسطة.

ومعنى قوله: (لن تراني) أن المانع ليس إلا من جانبك، وأني غير محجوب، بل متحجب بحجابٍ منك، وهو كونك فانياً في فانٍ، وأنا باقٍ، ووصفي باقٍ، فإذا جاوزت قنطرة الفناء، ووصلت إلى دار البقاء، فزت بمطلوبك.

قوله: (ومنع المجبرة إحالته في العقول غير لازم، لأنه ليس بأول مكابرتهم وارتكابهم) جملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه. وجوابه قد سبق بند منه في "الأنعام"، وموضع الإطناب فيه يطلب في الأصول.

قوله: (ودعاهم سفهاء): أي: سماهم سفهاء.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015