فإن قلت: ما لهم مقرّين في هذه الآية جاحدين في قوله: (وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام: 23]؟ قلت: تتفاوت الأحوال والمواطن في ذلك اليوم المتطاول، فيقرّون في بعضها، ويجحدون في بعضها.
أو أريد شهادة أيديهم وأرجلهم وجلودهم حين يختم على أفواههم.
فإن قلت: لم كرّر ذكر شهادتهم على أنفسهم؟ قلت: الأولى حكايةٌ لقولهم كيف يقولون ويعترفون؟ والثانية: ذمّ لهم، وتخطئةٌ لرأيهم، ووصفٌ لقلة نظرهم لأنفسهم، وأنهم قومٌ غرتهم الحياة الدنيا واللذات الحاضرة، وكان عاقبة أمرهم أن اضطروا إلى الشهادة على أنفسهم بالكفر والاستسلام لربهم واستيجاب عذابه، وإنما قال ذلك تحذيراً للسامعين من مثل حالهم.
[(ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ* وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ)].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ووصف لقلة نظرهم لأنفسهم) إشارة إلى أن قوله: (وغَرَّتْهُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا) بعد قوله: (قالوا شهدنا) من باب ترتيب الحكم على الوصف المناسب، يعني: أنهم قالوا: (شهدنا على أنفسنا)، إقراراً منهم بأن حجة الله لازمة لهم، وأنهم محجوبون لقلة نظرهم، وأنهم قوم غرتهم الحياة الدنيا، واللذات الدنيوية. فعلى هذا عطف قوله: (وغرتهم) على ما قبله، من باب الإخبار عن وجود شيئين مترتبين، وقد عول الترتيب إلى الذهن.
وأما الواو الداخلة على (وشهدوا على أنفسهم) فاستئنافية مصدرة على الجملة التذييلية؛ نعى عليهم، بعد الفراغ من أخبار القيامة، سوء صنيعهم، تقبيحاً وفضيحة لهم، وتحذيراً للسامعين من مثل حالهم.