و (يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ)، وكان السارق طعمة وحده؟ قلت: لوجهين: أحدهما: أنّ بنى ظفرٍ شهدوا له بالبراءة ونصروه، فكانوا شركاء له في الإثم. والثاني: أنه جمع؛ ليتناول طعمة وكل من خان خيانته، فلا تخاصم لخائن قط، ولا تجادل عنه.
فإن قلت: لم قيل: (خَوَّاناً أَثِيماً) على المبالغة؟ قلت: كان اللَّه عالماً من طعمة بالإفراط في الخيانة وركوب المآثم، ومن كانت تلك خاتمة أمره لم يشك في حاله.
وقيل: إذا عثرت من رجل على سيئةٍ فاعلم أن لها أخواتٍ. وعن عمر رضي اللَّه عنه: أنه أمر بقطع يد سارق، فجاءت أمه تبكي وتقول: هذه أوّل سرقة سرقها فاعف عنه. فقال: كذبت، إن اللَّه لا يؤاخذ عبده في أول مرة. (يَسْتَخْفُونَ): يستترون
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (لمَ قيل: {خَوَّاناً أَثِيماً}؟ ) يعني: أن طعمة قد سرق هذه السرقة الواحدة، فكيف قيل له: {خَوَّاناً أَثِيماً} على المبالغة؛ وأجاب: من كانت تلك خاتمة حاله، وهي أن يسرق ثم يهرب ويرتد وينقب حائطاً فيسقط عليه فيقتله، لم يشك أنه قد أفرط في الخيانة؛ لأن الله تعالى لا يؤاخذ عبده في أول مرة كما قاله عمر رضي الله عنه، ويمكن أن يحمل على مجرد المبالغة وأن تلك السرقة كانت عظيمة بالغة حدها حتى خوطب بسببها أفضل الخلق بقوله تعالى: {وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً}، نحوه سيجيء في الأنفال عند قوله تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} [الأنفال: 51]. قال: "الظلام للتكثير لأجل العبيد، أو لأن العذاب من العظم بحيث لولا الاستحقاق لكان المعذب بمثله ظلاماً بليغ الظلم".
قوله: ({يَسْتَخْفُونَ}: يستترون) فإن قلت: فسر أولاً {يَسْتَخْفُونَ} بقوله: "يستترون {مِنَ النَّاسِ} حياءً"، وثانياً بقوله: "ولا يستحيون منه" فهل من فرق؟ قلت: لا؛ لأنه جعل العلة الغائبة في الأول الحياء لينبه على أن {يَسْتَخْفُونَ} في الثاني كناية عن الحياء، فاكتفى في الثاني بذلك إيجازاً، ويمكن أن يقال: إن الاستخفاء من الله تعالى مُحال؛ لاستواء الجهر والخفاء عنده؛ فجُعل مجازاً عن الحياء، وأما الناس فعلى خلافه، فيجوز أن يُحمل على الحقيقة تارة وعلى الكناية أخرى؛ فلذلك فرق بين التركيبين.