ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وها نحن نبين لك بلسانهم ما تقتضيه الحال في هذا المقام؛ وهو أن ((لو)) لامتناع الشيء لامتناع غيره، فإذا دخلت على المثبت جعلته منفيًّا وبالعكس، فإذن المعنى: ما وجدوا في القرآن اختلافاً كثيراً؛ لأنه كان من عند الله، فمن ذهب إلى أن الوصف تخصيصٌ وإثبات للحكم فيما عدا المذكور؛ التزم الاختلاف في القليل، لكن غير مخل، كالناسخ والمنسوخ والمتشابه والعام والخاص ونحو ذلك. قلت: كلا، إنما يذهب إلى ذلك إذا لم يوجد للتخصيص فائدةٌ سواه، وها هنا الكلام في قومٍ مخصوصين في شأن البلاغتين؛ لأنهم تحدوا بهذا القرآن، وعجزوا عن الإتيان بمثله، ومع ذلك تقاعدوا عن الإيمان به، فأنكر عليهم، وقيل في حقهم: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ) الآية، وفائدة الوصف: أن الواجب من حيث الظاهر أن يجدوا اختلافاً كثيراً؛ لكونهم أكثر من حصى البطحاء ورمال الدهناء مع كونهم فرسان البلاغة لا يشق غبارهم في ميدان الطراد مع تهالكهم وحرصهم على الدفع بإظهار الاختلاف، فلما لم يظفروا بشيء منه؛ علم أن القرآن ليس من كلام البشر، بل هو من كلام خالق القوى والقدر، فوجب عليهم أن يتدبروا في ذلك، ويظهروا الإيمان به، نحو قوله تعالى: (لا تَاكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً) [آل عمران: 130]، وقوله: (ولا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُم مِّنْ إمْلاقٍ) [الإسراء: 31]. هذا وأما من جهة المعاني: فإن قولك: ما وجدوا في القرآن اختلافاً كثيراً؛ فمن باب قوله: (مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ ولا شَفِيعٍ يُطَاعُ) [غافر: 18]، وقول الشاعر:
على لا حبٍ لا يهتدى بمناره
فيحتمل أن لا يكون ثمة اختلافاً ولا كثرة، وأن يكون اختلافاً غير كثير؛ فدل على الأول اقتضاء المقام على ما سبق. ووجهٌ آخر؛ وهو أن يكون في الكلام حذف، أي: يتغافلون، وهم الذين لا يصطلي بنارهم في المعرفة والفطنة، فلا يتفكرون في هذا القرآن وأنه من عند الله؛ إذ ليس فيه اختلافٌ قط، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً، فما لهم لا يؤمنون به؟ ! فتكون الجملة الشرطية معطوفةٌ على هذا المقدر. والله أعلم.