كأنه قيل: ما كان اللَّه ليذر المخلصين منكم على الحال التي أنتم عليها ـ من اختلاط بعضكم ببعض، وأنه لا يعرف مخلصكم من منافقكم لاتفاقكم على التصديق جميعاً ـ حتى يميزهم منكم بالوحي إلى نبيه وإخباره بأحوالكم، ثم قال (وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) أي: وما كان اللَّه ليؤتى أحداً منكم علم الغيوب، فلا تتوهموا عند إخبار الرسول عليه الصلاة والسلام بنفاق الرجل وإخلاص الآخر أنه يطلع على ما في القلوب اطلاع اللَّه فيخبر عن كفرها وإيمانها وَلكِنَّ اللَّهَ يرسل الرسول فيوحي إليه ويخبره بأنّ في الغيب كذا، وأن فلانا في قلبه النفاق، وفلانا في قلبه الإخلاص، فيعلم ذلك من جهة إخبار اللَّه لا من جهة اطلاعه على المغيبات. ويجوز أن يراد: لا يترككم مختلطين (حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِبِ)؛ بأن يُكلفكم التكاليفَ الصَّعبةَ التي لا يصبرُ عليها إلا الخُلَّص الذين امتَحَنَ اللَّه قلوبَهم ـ كبذل الأرواحِ في الجِهاد، وإنفاقِ الأموالِ في سبيلِ اللَّه، فيَجعل ذلك عياراً على عقائِدكم، وشاهداً بضمائرِكم، حتى يعلَمَ بعضُكم ما في قَلْب بعضٍ مِنْ طريقِ الاسْتِدْلال، لا مِن جهةِ الوُقوف على ذاتِ الصُّدور والاطِّلاع عليها، فإنّ ذلك مما استأثَرَ اللَّهُ به.

وما كانَ اللَّه ليُطْلِعَ أحداً منكم على الغَيْبِ ومُضْمَرات القلوب حتى يعرفَ صحيحها من فاسِدِها مُطَّلعًا عليها (وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ) فيخبره ببعضِ المغيَّبات.

(فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ) بأنْ تَقدِروه حقَّ قَدْرِه، وتعلموه وحدَه مطَّلعًا على الغُيوب، وأنْ تُنزلُوهم مَنازِلَهم؛ بأنْ تعلَموهم عباداً مُجتبينَ، لا يَعلمون إلا ما عَلَّمَهم اللَّه، ولا يُخبرُون إلا بما أخبرهم اللَّهُ به من الغُيوب، وليسُوا مِن عِلمِ الغَيْبِ في شيء

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قوله: (مطلعاً): حال من ضمير "أحداً" في "يعرف"، ولو روي بفتح اللام ليكون حالاً من "صحيحها": جاز.

قوله: ((فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ)) لف، وقوله: "بأن تقدروه"، وقوله: "وأن تنزلوهم": نشر، ويروى: "تقدروه" بكسر الدال وضمها، والكسر أصح.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015