أتزوج النساء، غرضه بذلك أن ينقطع عن الزواج إلى العبادة، هكذا قالوا اجتهادًا منهم، فلما علم النبي (صلى الله عليه وسلم) بذلك قام خطيبًا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال ما ذكره المؤلف؛ وذلك لأن هذا المبدأ الذي ابتدعه هؤلاء مبدأ خطير يشبه مبدأ النصارى الذين ابتدعوا رهبانية ما كتبها الله عليهم، لكن يبتغون بذلك رضوان الله، ولكن شدَّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم، ثم بعد ذلك عجزوا، وهكذا كل إنسان يشدد على نفسه لابد أن يعجز في النهاية. المهم: أن هؤلاء جاءوا إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) فحمد الله وأثنى عليه كعادته في خطبه أنه كان يحمد الله ويثني عليه: «الحمد لله» مثل أن يقول: الحمد لله هذا حمد، «الثناء»: أن يكرر صفات الكمال؛ لأنه مأخوذ من الثُنيا، وهى العودة بعد البدء، قد يطول وقد لا يطول.
ثمّ قال: «لكني أنا أصلي وأنام»، هذا هديه، وقد قال الله تعالى في سورة المزمل: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ} [المزمل: 20]. {أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ} يعني: فوق النصف بقليل، {وَنِصْفَهُ} النصف {وَثُلُثَهُ} دون النصف، فهو (صلى الله عليه وسلم) لا يُكمل الثلثين قائمًا إلا في رمضان، فإنه إذا دخل العشر الأواخر من رمضان كان يقوم الليل كله، لكن هذا عارض، إنما هديه الدائم هو هذا، ومع ذلك فكان ينام في آخر الليل كما في صحيح البخاري أنها قالت: ما ألفيته سَحَراً إلا نائمًا؛ يعني: أنه ينام قليلاً في آخر الليل، وقد بين (صلى الله عليه وسلم) أن أفضل القيام قيام داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه.
وقوله: «أصلي وأنام»، هذا في ليلة واحدة، أحيانًا يقوم كل الليالي، يعني: كل ليلة يقوم حتى يُقال: لا ينام، وأحيانا ينام حتى يُقال: لا يقوم، وسبب ذلك أنه (صلى الله عليه وسلم) كان يتعبد لله -سبْحَانَهُ وتعالى- بما هو أصلح، إلا الفرائض فإنه لا يخل بها، لكن النوافل يتعبد لله بما يكون أصلح أحيانا يكون الأصلح، إذا جاءه ضيف يحتاجون إلى إكرام وسهر معهم في أول الليل ولم يقم صار هذا أفضل، كما شغله الضيف عن سنة الظهر فلم يصلها إلا بعد العصر، أحيانا يعرض له مسألة من مسائل العلم يحقق فيها في أول الليل وينام في آخره هذا أيضا أفضل، المهم: أن ما عدا الفرائض فإنه يُرجع فيه إلى الأصلح، فإن تساوى فإن كل نافلة تبقى على وظيفتها.
يقول: «وأصوم وأفطر»، وكان (صلى الله عليه وسلم) يصوم من كل شهر ثلاثة أيام لا يُبالي أصامها في أول الشهر أم في وسطه أم في آخره هذا ثابت، وربما صام يوم الاثنين والخميس، وكذلك يصوم في الأيام التي يُندب صيامها كيوم عرفة ويوم عاشوراء، وَقال: «لئن بقيت إلى قابل لأصومنَّ التاسع».