زيد بن حارثة، فلم يختر النبي صلى الله عليه وسلم أشراف القوم ووجهاءهم أن يكونوا هم الذين يردفونه على ناقته، بل اختار من صغار القوم في السن، واختار المولى يردفه من عرفة إلى مزدلفة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعتد بالمظاهر ولا تهمه، بل كان من عادته صلى الله عليه وسلم أنه يكون في أخريات القوم يتفقدهم، يعني: ليس هو الأول، بل يكتفي أن يكون الأخير حتى يتفقد أصحابه وينظر من يحتاج إلى أمر.
وقصة جابر في جمله () واضحة، فإن جابر بن عبد الله كان معه جمل ضعيف لا يمشي، يقول: فلحقني النبي صلى الله عليه وسلم فضربه ودعا فسار الجمل سيرًا لم يسر مثله قط، حتى صار الجمل يكون في مقدمة القوم وجابر يرده؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا له، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أتبيعني إياه؟ "، كان في الأول يريد أن يتركه قال: نعم، قال: "بعنيه بأوقية"، كم الأوقية؟ أربعون درهمًا، قال: لا، فقال: "بعنيه" فباعه، فاشترط أن يحمله إلى أهله في المدينة، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم شرطه، فلما وصل إلى المدينة دفع النبي صلى الله عليه وسلم الثمن، وقال له: خذ جملك ودراهمك فهو لك.
المهم: أن هذا الحديث يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم من عادته أن يكون في آخر القوم.
وقوله: "فجاءت امرأة من خثعم"، أي: القبيلة المعروفة بهذا الاسم خثعم، تريد أن تسأل النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من عادة النساء - بل من المشروع في حقهن - في حال الإحرام أن يكشفن وجوههن وهي جاءت كاشفة وجهها؛ لأن هذا هو المشروع في إحرام المرأة إذا لم يكن عندها رجال أجانب، والنبي صلى الله عليه وسلم - ذكر ابن حجر أن من خصائصه أنه - يجوز له من النظر إلى المرأة والخلوة بها ما لا يجوز لغيره، وهي تقابل النبي صلى الله عليه وسلم الآن، ولكن الفضل رضي الله عنه - وكان رديف النبي صلى الله عليه وسلم - كان شابًا وسيمًا، يعنى: جميلًا، فجعل ينظر إليها وتنظر إليه، ونظر رجل شاب لامرأة وهي تبادله النظر يخشى من الفتة مهما كان الإنسان، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم سدّ هذا الباب، فجعل يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر، ولم يأمر المرأة أن تغطي وجهها؛ لأن المشروع في - حق النساء - كما قلت - الكشف عن وجوههن في حال الإحرام.
فقالت: "يا رسول الله"، تناديه بهذا الوصف الذي هو أفضل أوصاف الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن أفضل أوصافه أن يكون عبدا رسولًا، قالت: "يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده ... إلخ"، قولها رضي الله عنها: "إن فريضة الله على عباده في الحج"، وأقرها النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، هذا يدل على أن الفريضة كانت متأخرة أدركت أباها وهو شيخ كبير لا يثبت على الرّاحلة، يعني: لا يستطيع أن يبقى على الراحلة؛ لأنه كبير والكبير عادة تلحقه المشقة بسرعة، هذا إذا تمكن من الركوب، وإلا فقد لا يتمكن أصلًا.