ووجب عليه بعد ذلك الاستنجاء بالماء، ولا يجزئه الحجر، لأن الموضع صار نجسا بنجاسة أجنبية، ولو استنجى بمطعوم أو غيره من المحترمات الطاهرات، فالأصح أنه لا يصح استنجاؤه، ولكن يجزئه الحجر بعد ذلك، إن لم يكن نقل النجاسة من موضعها، وقيل: إن الاستنجاء الأول يجزئه مع المعصية.
وقد ذكر الحديث الرابع عشر من مجموعتنا استنجاء الرسول صلى الله عليه وسلم بالماء، وفيه "فقضى حاجته، فخرج علينا، وقد استنجى بالماء" وفي الحديث الخامس عشر "فيستنجى بالماء" وفي الحديث السادس عشر "يتبرز لحاجته، فآتيه بالماء، فيغتسل به".
قال النووي: يؤخذ من هذه الأحاديث جواز الاستنجاء بالماء، واستحبابه ورجحانه على الاقتصار على الحجر. قال: وقد اختلف الناس في هذه المسألة فالذي عليه الجماهير من السلف والخلف، وأجمع عليه أهل الفتوى من أئمة الأمصار أن الأفضل أن يجمع بين الماء والحجر، فيستعمل الحجر أولا لتخف النجاسة، وتقل مباشرتها بيده، ثم يستعمل الماء، فإن أراد الاقتصار على أحدهما جاز الاقتصار على الحجر مع وجود الماء، ويجوز عكسه. فإن اقتصر على أحدهما فالماء أفضل من الحجر، لأن الماء يطهر المحل طهارة حقيقية، وأما الحجر فلا يطهره، وإنما يخفف النجاسة، ويبيح الصلاة مع النجاسة المعفو عنها. اهـ.
واستحب بعضهم الأحجار، وكره الاستنجاء بالماء. فقد روى ابن أبي شيبة عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنه سئل عن الاستنجاء بالماء. فقال: إذا لا يزال في يدي نتن. وعن نافع أن ابن عمر كان لا يستنجي بالماء، وعن ابن الزبير قال: ما كنا نفعله. وممن ذكر عنه إنكار الماء سعد بن أبي وقاص. وقال عطاء: غسل الدبر محدث. وقال سعيد بن المسيب في الاستنجاء بالماء: إنه وضوء النساء.
واختلف النقل عن مالك وابن حبيب، فبينما يذكر ابن حجر أن ابن التين نقل عن مالك أنه أنكر أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم استنجى بالماء، وعن ابن حبيب من المالكية أنه منع الاستنجاء بالماء لأنه مطعوم. نجد الأبي يقول: قال مالك وابن حبيب: إن استعمال الأحجار ترك. ويقول ابن حبيب، ولا نجيزه اليوم. ولا نفتي به إلا لمن عدم الماء، وقال: إنما اقتصروا على الأحجار لأنهم كانوا يبعرون بعيدا [أي فلا يجدون الماء] ثم قال الأبي: اختلف في قول مالك وابن حبيب هذا، فقال اللخمي: هو الحق؛ لأن أحاديث الأحجار إنما جاءت في السفر، وقد تكون لعذر. قال: والأصل في إزالة النجاسة الماء، والصلاة أولى ما احتيط لها وحمل الباجي قولهما على الندب. قال: وإلا فهو خلاف الإجماع. اهـ.
وأعجب من هذا الخلاف الخلاف في حكم الاستنجاء من أساسه، فالشافعي وأحمد وأبو ثور وإسحق وأبو داود ومالك في رواية علي أنه واجب وشرط في صحة الصلاة، وروي عن مالك أنه من باب إزالة النجاسة، وإزالتها عنده سنة. وحكى عنه عبد الوهاب أنها واجبة. قال الأبي المالكي: وعلى القول بوجوبها عندنا قيل: إنها شرط في صحة الصلاة، يعيد تاركها أبدا، وقيل: شرط مع الذكر دون النسيان، وقيل: واجبة دون شرط. اهـ.