27 - وفيه فضيلة اللبن، قال القرطبي: يحتمل أن يكون سبب تسمية اللبن فطرة أنه أول شيء يدخل بطن المولود ويشق أمعاءه، والسر في ميل النبي صلى الله عليه وسلم، إليه دون غيره أنه كان مألوفا له، ولأنه لا ينشأ عن جنسه مفسدة، وقال بعضهم: جعل اللبن علامة الإسلام والاستقامة لكونه سهلا طيبا طاهرا سائغا للشاربين، سليم العاقبة، أما الخمر فأم الخبائث، وجالبة الشر في الحال والمآل.
وظاهر الرواية الأولى أن الإناءين عرضا على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الصلاة في بيت المقدس، وقبل العروج، وظاهر الرواية السابعة أنهما عرضا عليه في السماء السابعة بعد رؤية البيت المعمور، ثم إن الروايتين تفيدان أن الذي عرض عليه إناءان لا أكثر، لبن وخمر، وفي رواية للبخاري "ثم أتيت بإناء من خمر، وإناء من لبن، وإناء من عسل، فأخذت اللبن" وفي حديث أبي هريرة عن ابن عائذ في حديث المعراج، بعد ذكر إبراهيم قال: ثم انطلقنا، فإذا نحن بثلاثة آنية مغطاة، فقال جبريل: يا محمد ألا تشرب مما سقاك ربك؟ فتناولت أحدها، فإذا هو عسل، فشربت منه قليلا، ثم تناولت الآخر فإذا هو لبن، فشربت منه حتى رويت. فقال: ألا تشرب من الثالث؟ قلت: قد رويت. قال: وفقك الله" وفي حديث أبي سعيد عند ابن إسحاق "فصلى بهم -يعني بالأنبياء- ثم أتي بثلاثة آنية: إناء فيه لبن، وإناء فيه خمر، وإناء فيه ماء فأخذت اللبن".
قال الحافظ ابن حجر: ويجمع بين الاختلاف إما بحمل "ثم" على غير بابها من الترتيب، وإنما هي بمعنى الواو هنا، وإما بوقوع عرض الآنية مرتين: مرة عند فراغه من الصلاة ببيت المقدس، وسببه ما وقع من العطش، ومرة عند وصوله إلى سدرة المنتهى، ورؤية الأنهار الأربعة. وأما الاختلاف في عدد الآنية وما فيها فيحمل على أن بعض الرواة ذكر ما لم يذكره الآخر ومجموعها أربعة آنية، وفيها أربعة أشياء من الأنهار الأربعة التي رآها تخرج من سدرة المنتهى، فعند الطبري: لما ذكر سدرة المنتهى "يخرج من أصلها أنهار من ماء غير آسن، ومن لبن لم يتغير طعمه، ومن خمر لذة للشاربين، ومن عسل مصفى" فلعله عرض عليه من كل نهر إناء.
28 - وعن قوله في الرواية السادسة: "ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام" قال الخطابي: هو صوت ما تكتبه الملائكة من أقضية الله تعالى ووحيه، وما ينسخونه من اللوح المحفوظ، أو ما شاء الله تعالى من ذلك أن يكتب ويرفع، وقال القاضي عياض: في هذا حجة لمذهب أهل السنة في الإيمان بصحة كتابة الوحي والمقادير في كتب الله، من اللوح وما شاء، بالأقلام التي هو تعالى يعلم كيفيتها، على ما جاءت به الآيات من كتاب الله تعالى، والأحاديث الصحيحة، وأن ما جاء من ذلك على ظاهره لكن كيفية ذلك وصورته وجنسه مما لا يعلمه إلا الله تعالى أو من أطلعه على شيء من ذلك من ملائكته ورسله، وما يتأول هذا ويحيله عن ظاهره إلا ضعيف النظر والإيمان، والله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، حكمة من الله تعالى، وإظهارا لما يشاء من غيبه لمن يشاء من ملائكته وسائر خلقه. وإلا فهو غني عن الكتب والاستذكار. سبحانه وتعالى.
29 - قال القاضي عياض: وفي علو منزلة نبينا صلى الله عليه وسلم وارتفاعه فوق منازل سائر الأنبياء