يدل على الثاني، فإنهم ذكروا محمد بن أبي بكر الصديق وإنما ولد قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثة أشهر وأيام، ومع ذلك فأحاديث هذا الضرب مراسيل، والخلاف الجاري بين الجمهور وبين أبي إسحاق الأسفرايني ومن وافقه على رد المراسيل مطلقا حتى مراسيل الصحابة لا يجري في أحاديث هؤلاء، لأن أحاديثهم ليست من قبيل مراسيل كبار التابعين ولا من قبيل مراسيل الصحابة الذين سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم وهذا مما يلغز به، فيقال: صحابي حديثه مرسل، لا يقبله من يقبل مراسيل الصحابة، ومنهم من بالغ، فكان لا يعد في الصحابة إلا الصحبة العرفية، فقد جاء عن عاصم الأحول قال "رأى عبد الله بن سرجس رسول الله صلى الله عليه وسلم غير أنه لم يكن له صحبة" أخرجه أحمد، كذلك روي عن سعيد بن المسيب أنه كان لا يعد في الصحابة إلا من أقام مع النبي صلى الله عليه وسلم سنة فصاعدا، أو غزا معه غزوة فصاعدا. قال الحافظ: والعمل على خلاف هذا القول لأنهم اتفقوا على عد جمع جم في الصحابة لم يجتمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم إلا في حجة الوداع، ومن اشترط الصحبة العرفية أخرج من له رؤية أو من اجتمع به لكن فارق عن قرب كما جاء عن أنس "أنه قيل له: هل بقي من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم غيرك؟ قال: لا" مع أنه كان في ذلك الوقت عدد كثير ممن لقيه من الأعراب.
ومنهم من اشترط أن يكون حين اجتماعه به بالغا، وهو مردود أيضا، لأنه يخرج مثل الحسن بن علي ونحوه من أحداث الصحابة والبخاري يقول: من صحب النبي صلى الله عليه وسلم أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه وقيد "من المسلمين" قيد يخرج به من صحبه أو رآه من الكفار، فأما من أسلم منهم بعد موته، فإن كان قوله "من المسلمين" حالا، خرج من هذه صفته وهو المعتمد.
قال: ويرد على التعريف، من صحبه أو رآه مؤمنا به، ثم ارتد بعد ذلك ولم يعد إلى الإسلام، فإنه ليس صحابيا اتفاقا، فينبغي أن يزاد فيه "ومات على ذلك" فلو ارتد ثم عاد إلى الإسلام لكن لم يره ثانيا بعد عودته، فالصحيح أنه معدود في الصحابة لإطباق المحدثين على عد الأشعث بن قيس ونحوه، ممن وقع له ذلك، وإخراجهم أحاديثهم في المسانيد.
قال الحافظ: وهل يختص جميع ذلك ببني آدم؟ أو يعم غيرهم من العقلاء؟ .
أما الجن فالراجح دخولهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إليهم قطعا وهم مكلفون فيهم العصاة والطائعون فمن عرف اسمه منهم لا ينبغي التردد في ذكره في الصحابة وإن كان ابن الأثير عاب ذلك على أبي موسى فلم يستند في ذلك إلى حجة.
وأما الملائكة فيتوقف عدهم فيهم على ثبوت بعثته إليهم، فإن فيه خلافا بين الأصوليين، حتى نقل بعضهم الإجماع على ثبوته وعكس بعضهم.
وهذا كله فيمن رآه وهو في الحياة الدنيوية. أما من رآه بعد موته وقبل دفنه، فالراجح أنه ليس بصحابي وإلا لعد من اتفق أن يرى جسده المكرم وهو في قبره المعظم ولو في هذه الأعصار وكذلك من كشف له عنه من الأولياء فرآه كذلك عن طريق الكرامة إذ حجة من أثبت الصحبة لمن رآه قبل دفنه أنه مستمر الحياة، وهذه الحياة ليست دنيوية وإنما هي أخروية، لا تتعلق بها أحكام الدنيا، فإن الشهداء أحياء، ومع ذلك فإن الأحكام المتعلقة بهم بعد القتل جارية على أحكام غيرهم من الموتى.