وقال القاضي عياض: اختلف في النائم المستغرق، فقيل: لا تصح رؤياه ولا ضرب المثل له، لأن هذا لا يدرك شيئا، مع استغراق أجزاء قلبه، لأن النوم يخرج الحي عن صفات التمييز والظن والتخيل، كما يخرجه عن صفة العلم، وقال آخرون: بل يصح للنائم مع استغراق أجزاء قلبه بالنوم أن يكون ظانا ومتخيلا وأما العلم فلا لأن النوم آفة تمنع حصول الاعتقادات الصحيحة نعم إن كان بعض أجزاء قلبه لم يحل فيه النوم فيصح، وبه يضرب المثل وبه يرى ما يتخيله ولا تكليف عليه حينئذ لأن رؤياه ليست على حقيقة وجود العلم ولا صحة المميز وإنما بقيت فيه بقية، يدرك بها ضرب المثل وأيده القرطبي بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينام عينه، ولا ينام قلبه ومن هنا احترز القائل بقوله "إدراك أمثلة منضبطة في التخيل" لأن الرائي لا يرى في منامه إلا من نوع ما يدركه في اليقظة بحسه، إلا أن التخيلات قد تركب له تركيبا يحصل به صورة لا عهد له بها، يكون علما على أمر نادر، كمن رأى رأس إنسان على جسد فرس، له جناحان مثلا، وأشار بقوله: "أعلاما" إلى الرؤيا الصحيحة المنتظمة الواقعة على شروطها قال الحافظ ابن حجر: وأما الحديث الذي أخرجه الحاكم عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: "لقي عمر عليا، فقال: يا أبا الحسن. الرجل يرى الرؤيا فمنها ما يصدق، ومنها ما يكذب؟ قال نعم. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من عبد ولا أمة، ينام فيمتلئ نوما إلا تخرج بروحه إلى العرش فالذي لا يستيقظ دون العرش فتلك الرؤيا التي تصدق والذي يستيقظ دون العرش، فتلك الرؤيا التي تكذب" قال الذهبي في تلخيصه: هذا حديث منكر.
بعد هذه الجولة في أقوال العلماء في حقيقة الرؤيا نخلص إلى أن الرؤيا كصورة ذات ألوان مختلفة، أو ذات جوانب مختلفة كل يرى لونا من ألوانها وينظر من زاوية من زواياها، وكل قول مما عرضنا يعبر عن بعض أنواع الرؤيا والبحث في كيفية حصولها بجميع أحوالها بحث في بحر لا ساحل له فهي سر يجري في النوم، والنوم نفسه سر لأنه نوع من الوفاة التي هي سر الأسرار كما يقول تعالى {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها} [الزمر: 42]، وإذا أحلنا بعض ما يراه النائم إلى أسباب، كزيادة الأكل، وقربه من النوم، أو ضغط الرغبات، أو عظم الانشغال أو الخوف أو القلق فإننا لا نعمم بالحكم كل الرؤى، والذي لا شك فيه أن بعض ما يراه النائم جزء من النبوة، إعلام مسبق من الله إنذار أو تبشير وقد فسر بعض العلماء قوله تعالى {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب} [الشورى: 51] فسره بالرؤيا في المنام ومنكر هذا منكر للبداهة والواقع.
قالوا: ورؤيا الأنبياء وحي والوحي لا يدخله خلل لأنه محروس لكنها قد لا تحتاج إلى تأويل، فتقع كما رؤيت في النوم كما في قوله تعالى {لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون} [الفتح: 27] وقد تحتاج إلى تأويل كما في قول يوسف عليه السلام {إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين} [يوسف: 4] وقوله {يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا} [يوسف: 100] وكرؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم انكسار سيفه والبقر تنحر في رواياتنا.