فإن الرواية الثالثة ظاهرة في ذلك، وأنهم ابتلوا بالجوع وضيق العيش في أوقات، قال النووي: وقد زعم بعض الناس أن هذا كان قبل فتح الفتوح والقرى عليهم، وهذا زعم باطل، فإن راوي الحديث أبو هريرة، ومعلوم أنه أسلم بعد فتح خيبر.
فإن قيل: لا يلزم من كونه رواه أن يكون أدرك القضية، فلعله سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره؟ فالجواب أن هذا خلاف الظاهر، ولا ضرورة إليه، بل الصواب خلافه، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزل يتقلب في اليسار والقلة حتى توفي صلى الله عليه وسلم، فتارة يوسر، وتارة ينفد ما عنده، كما ثبت في الصحيح عن أبي هريرة "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدنيا، ولم يشبع من خبز الشعير" وعن عائشة "ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم منذ قدم المدينة من طعام ثلاث ليال تباعاً، حتى قبض "و" توفي صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة على شعير، استدانه لأهله" وغير ذلك مما هو معروف، فكان النبي صلى الله عليه وسلم في وقت يوسر، ثم بعد قليل ينفد ما عنده، لإخراجه في طاعة الله من وجوه البر، وإيثار المحتاجين، وضيافة الطارقين، وتجهيز السرايا، وغير ذلك. وهكذا كان خلق صاحبيه -رضي الله عنهما- بل أكثر أصحابه، وكان أهل اليسار من المهاجرين والأنصار -رضي الله عنهم- مع برهم له صلى الله عليه وسلم، وإكرامهم إياه، وإتحافهم له بالطرف وغيرها، ربما لم يعرفوا حاجته في بعض الأحيان، لكونهم لا يعرفون فراغ ما كان عنده من القوت، بإيثاره به غيره، ومن علم ذلك منهم ربما كان ضيق الحال مثله، في ذلك الوقت، كما جرى لصاحبيه، ولا يعلم أحد من الصحابة، علم حاجة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو متمكن من إزالتها إلا بادر إلى إزالتها، لكن كان صلى الله عليه وسلم يكتمها عنهم، إيثاراً لتحمل المشاق، وحملا عنهم، وأشباه هذا كثير في الصحيح مشهور. اهـ
ومن هذا الصحيح المشهور "كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم من أدم -جلد مدبوغ- حشوه ليف" وروايتنا الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والعاشرة والحادية عشرة، وعند البخاري عن أنس "لم يأكل النبي صلى الله عليه وسلم على خوان حتى مات، وما أكل خبزاً مرققاً حتى مات" وعند البيهقي "ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام متوالية، ولو شئنا لشبعنا، ولكنه كان يؤثر على نفسه".
وادعى ابن حبان أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يجوع، واحتج بحديث "أبيت يطعمني ربي ويسقيني" وتعقب بالحمل على تعدد الحال، فكان يجوع أحياناً، ليتأسى به أصحابه، ولاسيما من لا يجد مدداً، ويتألم ويصبر، ويحتسب، فيضاعف له الأجر.
والحق أن هذا الزهد من النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان لدفع طيبات الدنيا اختياراً لطيبات الحياة الدائمة، قال ابن بطال: المال يرغب فيه للاستعانة به على الآخرة، فلم يحتج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المال من هذا الوجه، فزهده صلى الله عليه وسلم لا يدل على تفضيل الفقر على الغنى، بل يدل على فضل القناعة والكفاف وعدم التبسط في ملاذ الدنيا. اهـ
نعم جاء في الصحيحين "أنه كان صلى الله عليه وسلم إذا جاءه ما فتح الله به عليه من خيبر وغيرها، من تمر وغيره، يدخر قوت أهله سنة، ثم يجعل ما بقي عنده عدة في سبيل الله تعالى" ثم كان مع ذلك يطرأ عليه الطارئ، فربما أدى ذلك إلى نفاد ما عند أهله.