قضيتان، جرت فيهما هاتان المعجزتان -تكثير الطعام القليل، وعلمه صلى الله عليه وسلم بأن الطعام القليل سيكثر -ففي الحديث الأول أن أبا طلحة وأم سليم -رضي الله عنهما- أرسلا أنساً رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأقراص شعير .... إلى آخر ما ذكر في الرواية السادسة، وأما الحديث الآخر ففيه أن أنساً قال: بعثني أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأدعوه ... " ثم ساق روايتنا السابعة. ثم قال: وهذا الحديث قضية أخرى بلا شك، وفيها ما سبق في الحديث الأول وزيادة. اهـ
وكذلك يميل الحافظ ابن حجر: إلى تعدد القصة، فيقول بعد أن ذكر روايات مسلم، وزاد عليها رواية أحمد "إن أبا طلحة رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم طاوياً" ورواية أبي يعلى "إن أبا طلحة بلغه أنه ليس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم طعام، فذهب، فأجر نفسه بصاع من شعير، ثم جاء به" ورواية أبي نعيم "جاء أبو طلحة إلى أم سليم، فقال: أعندك شيء، فإني مررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقرئ أصحاب الصفة سورة النساء، وقد ربط على بطنه حجراً من الجوع" يقول: ولا منافاة بين ذلك، لاحتمال أن تكون القصة تعددت، ويدل على التعدد ما بين العصيدة [الواردة في البخاري، بلفظ "أن أم سليم عمدت إلى مد من شعير، جشته -أي جعلته جشيشاً، دقيقاً غير ناعم- وجعلت منه خطيفة -وهي العصيدة، وزناً ومعنى- وعصرت عكة عندها .... الحديث] والخبز المفتوت، الملتوت بالسمن، من المغايرة. اهـ
وفي النفس من تعدد القصة شيء، فالمسجد الوارد في الرواية السادسة وفي الرواية العاشرة المراد به الموضع الذي أعده النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة فيه، حين محاصرة الأحزاب للمدينة في غزوة الخندق، كما يقول الحافظ ابن حجر.
وكون القوم ثمانين، ودخلوا عشرة عشرة، دون اختلاف في ملابسات وصولهم يبعد التعدد.
ثم إن الجمع ممكن وسهل، فكون الرائي لأعراض الجوع أبا طلحة أو أنساً لا يلزمه التنافي، فقد يكون كل منهما قد رأى، وكل منهما قد أخبر.
وكون أنس ذهب بكسر الخبز، وعاد به لا ينافي ما حصل بعد وصول النبي صلى الله عليه وسلم من فته، ولته بالسمن.
وكون أم سليم قدمت خبزاً مفتوتاً، أو عصيدة، فيمكن أن تكون قد جمعت بينهما، وأن الخبز الكسر المرسل مع أنس هو الذي فت، وأنها لما رأت الناس طحنت الدشيش وطبخته عصيدة. والتشابه في الأحداث يرجح عدم التعدد. والله أعلم.
(فقمت عليهم) سياق الكلام أن أبا طلحة وأم سليم أرسلا الخبز مع أنس، ليأخذه النبي صلى الله عليه وسلم، فيأكله، فلما وصل أنس، ورأى كثرة الناس حول النبي صلى الله عليه وسلم استحيا، وظهر له أن يدعو النبي صلى الله عليه وسلم، ليقوم معه وحده إلى المنزل، فيحصل مقصودهم من إطعامه، ويحتمل أن يكون ذلك تخطيطاً ممن أرسله، وأنهما قالا له: إن رأيت كثرة الناس فادع النبي صلى الله عليه وسلم وحده، خشية أن لا يكفيهم الخبز الذي يحمله، وقد عرفوا إيثار النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه لا يأكل وحده، فلما رأى كثرة الناس دعاه.