والتحقيق: أن الخلاف في هذه الأحكام لا تتوقف على الخلاف في أشهر الحج، وإنما ترتبط بها من حيث التطبيق فقط، فليست ثمرة للخلاف في أشهر الحج. فالشافعية لا يجيزون الإحرام بالحج في غير أشهر الحج ولا يتوقف ذلك على كونها تنتهي عند العاشر من ذي الحجة، أو عند آخر ذي الحجة، وكراهة الاعتمار في أشهر الحج عند مالك ليست ثمرة للخلاف في أشهر الحج بل هي حكم ارتضاه سواء كانت أشهر الحج ثلاثة كاملة أو ناقصة، وكذلك لزوم الدم لمن أخر طواف الإفاضة عنده، فإن غيره لا يقول بلزوم الدم مطلقاً على تأخير الطواف أشهراً، ولذلك يقول النووي في المجموع: فلا فرق بين أن يوافقونا في أشهر الحج أو يخالفونا.
وعلى أي حال فالكل يجمع على أنه لا يصح في سنة واحدة أكثر من حجة لأن الحجة الواحدة تستغرق الوقت، فلا يمكن أداء الحجة الأخرى. على معنى أن وقت الوقوف بعرفة محدد، فلا يصح أن يقع لحجتين، لأن الحجة الواحدة تصح بكل لحظة منه.
هذا، ولم يتعرض الإمام مسلم للميقات الزماني في أحاديثه، وما ذكره البخاري إلا كحكم فقهي، وما ساق له إلا تعليقات موقوفات.
أما المواقيت المكانية فقد اتفقت الروايات على أن ميقات أهل المدينة "ذو الحليفة" أما في أفضل مكان يحرم منه من ذي الحليفة فسيأتي في الباب التالي إن شاء الله. وأن ميقات أهل الشام "الجحفة" -وهي مهيعة- قال العلماء: وهي ميقات أهل مصر والمغرب، وأن ميقات أهل نجد "قرن المنازل"، قال الشافعي: "قرن" ميقات المتوجهين من نجد اليمن ونجد الحجاز، اهـ وأن ميقات أهل اليمن "يلملم"، والمراد بأهل اليمن: أهل تهامة اليمن، لا كل اليمن، فإن اليمن تشمل نجداً، وتهامة. كذا قال النووي في المجموع.
ثم قال: وهذه الأربعة نص عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا خلاف، وهذا مجمع عليه.
أما "ذات عرق" لأهل العراق فاختلف العلماء في توقيته، هل هو منصوص عليه من النبي صلى الله عليه وسلم؟ أو كان باجتهاد من عمر رضي الله عنه؟ .
حجة من قال إنه كان باجتهاد من عمر رضي الله عنه: ما رواه البخاري عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: لما فتح هذان المصران [يعني بالبصرة والكوفة، ومعنى فتحهما إنشاؤهما فإنهما أنشئا في زمن عمر رضي الله عنه، فهما مدينتان إسلاميتان] أتوا عمر، فقالوا: يا أمير المؤمنين. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حد لأهل نجد "قرنا"، وهو جور عن طريقنا [أي وهو مائل بعيد عن طريقنا] وإنا إن أردنا "قرنا" شق علينا؟ قال: فانظروا حذوها من طريقكم، فحد لهم "ذات عرق".
وقد روى الشافعي من طريق أبي الشعثاء قال: "لم يوقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المشرق شيئاً، فاتخذ الناس بحيال "قرن" "ذات عرق" وروى أحمد عن ابن عمر حديث المواقيت، وزاد فيه: "قال ابن عمر: فآثر الناس "ذات عرق" على "قرن"، وفي رواية له: "فقال له قائل: فأين العراق؟ فقال ابن عمر: لم يكن يومئذ عراق، فهذا كله يدل على أن ميقات "ذات عرق" ليس منصوصاً، وبه قطع الغزالي