بل صريحه، ويترجح من حيث المعنى أيضاً بأن صيام الدهر قد يفوت بعض الحقوق، وبأن من اعتاده لا يكاد يشق عليه، بخلاف من يصوم يوماً ويفطر يوماً، فإنه ينتقل من فطر إلى صوم، ومن صوم إلى فطر، وقد نقل الترمذي عن بعض أهل العلم أنه أشق الصيام، ويأمن مع ذلك غالباً من تفويت الحقوق، كما أشار إلى ذلك في حق داود عليه السلام [في روايتنا الثانية والعشرين "ولا يفر إذا لاقى" لأن من أسباب الفرار ضعف الجسد، ولا شك أن سرد الصوم ينهكه، وعلى ذلك يحمل قول ابن مسعود -فيما رواه سعيد بن منصور بإسناد صحيح عنه- أنه قيل له: "إنك لتقل الصيام؟ فقال: إني أخاف أن يضعفني عن القراءة، والقراءة أحب إلي من الصيام".
قال الحافظ: نعم إن فرض أن شخصاً لا يفوته شيء من الأعمال الصالحة بالصيام أصلاً، ولا يفوت حقاً من الحقوق التي خوطب بها [وهذا فرض محض، إذ يبعد وجود من يؤدي حق نفسه وزوجه وولده وزائره مع صومه طول العام] لم يبعد أن يكون في حقه أرجح. اهـ
وحاصل الأقوال في حكم صوم الدهر عدا العيدين.
الأول جوازه لمن قوي عليه ولم يفوت به حقاً، وصوم يوم وإفطار يوم أفضل.
الثاني: جوازه لمن قوي عليه ولم يفوت به حقاً، وصومه أفضل.
الثالث: استحبابه لمن قوي عليه ولم يحصل له به ضرر ولم يفوت به حقاً.
فإن فوت حقاً واجباً حرم، وإن فوت حقاً مستحباً أولى من الصيام كره، وإن فوت مستحباً الصيام أولى منه فلا يكره.
الرابع: إن صوم الدهر -ما عدا العيدين- مكروه مطلقاً. ذهب إلى ذلك إسحق وأهل الظاهر وهو رواية عن أحمد، وإليه ذهب ابن العربي من المالكية، وقال: قوله صلى الله عليه وسلم "لا صام من صام الأبد" إن كان معناه الدعاء فياويح من أصابه دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان معناه الخبر فياويح من أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يصم، وإذا لم يصم شرعاً لم يكتب له الثواب، لوجوب صدق النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه نفى عنه الصوم، وقد نفى عنه الفضل، فكيف يطلب الفضل فيما نفاه النبي صلى الله عليه وسلم؟ .
الخامس: أن صوم الدهر حرام، شذ به ابن حزم، ويحتج له بحديث أبي موسى رفعه "من صام الدهر ضيقت عليه جهنم، وعقد بيده" أخرجه أحمد والنسائي وابن خزيمة وابن حبان، قالوا: ظاهره أنها تضيق عليه، حصراً له فيها لتشديده على نفسه، وحمله عليها، ورغبته عن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم واعتقاده أن غير سنته أفضل منها، وهذا يقتضي الوعيد الشديد، فيكون حراماً.
ويجيب الجمهور: عن هذا الحديث بأن معناه ضيقت عنه جهنم، فلا يدخلها، ويجعلون لفظ "عليه" بمعنى "عنه" قالوا: ويبعد أن يكون الحديث على ظاهره، لأن من ازداد لله عملاً وطاعة ازداد عند الله رفعة، وتعقب بأنه ليس كل عمل صالح إذا ازداد العبد منه ازداد من الله قرباً، رب عمل صالح إذا ازداد منه إزداد بعداً، كالصلاة في الأوقات المكروهة.