هل من يقرأ ذلك يخشى الفقر من الإنفاق. إن الإمساك خشية الفقر وسوسة من إبليس {الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً} [البقرة: 268].

إن الوعد من الذي لا يخلف وعده، القادر الذي يملك كل شيء يجعل المنفق واثقاً من أن الله سيخلف عليه ما أنفق أضعافاً مضاعفة في الدنيا، مصداقاً لقوله تعالى: {من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون} [البقرة: 245] ومصداقاً لقوله: {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين} [سبأ: 39].

وإن الأحاديث التي تدعو إلى الإنفاق وتعد بأن الله يخلف على المنفق كثيرة، فالحديث الثالث والعشرون يقول: "ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم اعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم اعط ممسكاً تلفاً". قال النووي: قال العلماء هذا في الإنفاق في الطاعات ومكارم الأخلاق وعلى العيال والضيفان والصدقات ونحو ذلك، بحيث لا يذم ولا يسمى سرفاً، والإمساك المذموم هو الإمساك عن هذا. اهـ.

وقال القرطبي: هو يعم الواجبات والمندوبات، لكن الممسك عن المندوبات لا يستحق هذا الدعاء، إلا أن يغلب عليه البخل المذموم، بحيث لا تطيب نفسه بإخراج الحق الذي عليه لو أخرجه. اهـ.

ومن المعلوم أن دعاء الملائكة مجاب، لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: "فإن من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه"، لكن الإجابة للدعاء بالخلف للمنفق تحتمل ثلاثة أمور: إما العوض المالي مع المضاعفة في الدنيا، وإما أن يدفع عنه من السوء في الدنيا بما يقابل نفقته، وإما أن يحتفظ له بالعوض كثواب أخروي، وسنتحدث عن الأخير فيما بعد. والإجابة للدعاء بالتلف للممسك تحتمل خمسة أمور: إما تلف في المال الموجود بالضياع أو عدم الانتفاع بصرفه فيما لا ينفع أو فيما يضر، وإما تضييق في الرزق، فيكون الممنوع في حكم ما أعطي وتلف، وإما تلف في غير المال من النعم الأخرى كتلف الأنفس والصحة، وإما انشغال بأموال عن الطاعات، فتكون الطاعات غير الحاصلة في حكم التي وصلت وأحبطت، وإما ضياع الأجر والثواب وضياع الحسنات التي كان من الممكن تحصيلها بالإنفاق، فتكون الحسنات الضائعة في حكم الحاصلة التالفة. وظاهر الحديث في إخلاف المال للمنفق وإتلافه عليه في الدنيا. وكثير من الناس بحكم الطبيعة البشرية يحرص على الإخلاف المالي في الدنيا ويدفعه ذلك إلى الإنفاق، وقد كانت الأحاديث (53)، (54)، (55) صريحة في ذلك، ففي ألفاظها "أنفقي أو انضحي أو انفحي، ولا تحصي فيحصي الله عليك". "ولا توعي فيوعي الله عليك". "ارضخي ما استطعت، ولا توعي فيوعي الله عليك".

ويؤكد هذا المعنى قوله تعالى: {يمحق الله الربا ويربي الصدقات} [البقرة: 276] فأموال الربا نهايتها المحق لا محالة، وأموال الصدقات نامية في الدنيا بإذن الله، كما يزيده تأكيداً قوله جل شأنه: {وما آتيتم من رباً ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون} [الروم: 39].

طور بواسطة نورين ميديا © 2015