فمر أبا بكر فليصل بالناس. فلما حضرت صلاة العصر أذن بلال ثم قال لأبي بكر: أتصلي بالناس فأقيم الصلاة؟ أم تنتظر ربما حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وكان أبو بكر يعلم بالأمر، ويعلم حب رسول الله صلى الله عليه وسلم للتكبير بالصلاة في أول وقتها ويعلم حرصه على التخفيف عن الصحابة وعدم المشقة عليهم بتطويل الانتظار ومنهم المريض وصاحب العمل وذو الحاجة، فقال لبلال: نعم أقم الصلاة. فأقام بلال، وتقدم أبو بكر، فكبر واستفتح وبدأ في الصلاة، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلف الصفوف، فاخترقها برفق حتى وصل إلى الصف الأول، فوقف فيه، يبغي الاقتداء بأبي بكر، وانزعج الصحابة لوقوف النبي صلى الله عليه وسلم خلف أبي بكر، فصفقوا. وصفقوا. وصفقوا.
ينبهون بذلك أبا بكر، وكان من عادة أبي بكر ألا يلتفت في صلاته، لأنه يعلم النهي عن الالتفات في الصلاة وأنه اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة الرجل، كما كان من عادته أن يستغرق في صلاته خشوعا وخضوعا حتى لا يكاد يحس بما حوله، فلم ينتبه للتصفيق حتى أكثروا وأكثروا فالتفت فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحرك ليتأخر وليقف في الصف، وليقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا بالرسول صلى الله عليه وسلم يشير إليه أن ابق في مكانك، واستمر في إمامتك، ولكن الصديق يفضل استعمال الأدب، ويعتذر عما ورد إليه من الأمر، فيرفع يديه إلى السماء شاكرا الله تعالى على التكريم الذي كرمه به رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يرجع إلى الصف، وتقدم صلى الله عليه وسلم، فصلى بالناس، فلما فرغ من صلاته التفت إلى أبي بكر، فقال له: لم لم تثبت في إمامتك إذ أمرتك؟ فقال أبو بكر: كيف أتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن أبي قحافة الذي لا يمتاز على كثير من قريش؟ ورضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بجوابه وأقره عليه، وقدر له أدبه وشعوره النبيل والتفت صلى الله عليه وسلم إلى الصحابة يؤاخذهم على التصفيق في الصلاة فقال لهم: ما لكم قد صفقتم في الصلاة وأكثرتم التصفيق؟ لا تعودوا لمثلها. إن التصفيق في الصلاة للنساء، ومن حصل له في الصلاة شيء، يريد أن ينبه الغير عنه فليسبح، وليقل: سبحان الله، فبذلك ينتبه إليه.
وبصدد الاستدلال على أن التسبيح في الصلاة للرجال، والتصفيق للنساء يروي الإمام مسلم حديثا آخر، في واقعة أخرى، يروي عن المغيرة بن شعبة أنه صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر إلى غزوة تبوك، وفي الطريق وقبيل الفجر أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم قضاء الحاجة، فانتحى عن الجيش إلى ناحية منعزلة، وبرز واتجه إلى مكان التغوط، وتبعه المغيرة يخدمه ويحمل له ماء الوضوء، ووقف منه على بعد، فلما قضى صلى الله عليه وسلم حاجته، واستجمر بالأحجار توجه إلى المكان الذي وقف فيه المغيرة، وتهيأ للوضوء، وأخذ المغيرة يصب عليه الماء من إنائه، فغسل يديه ثلاث مرات. ثم غسل وجهه، ثم حاول أن يخرج يديه من الجبة ليغسلهما إلى المرفقين فلم يستطع لضيق كم الجبة، فأدخل كفيه من كمي الجبة إلى أسفلها، فأخرج ذراعيه وغسلهما إلى المرفقين، ثم مسح شعره ثم مسح على خفيه، ثم اتجه صلى الله عليه وسلم وخلفه المغيرة حيث مكان الصلاة فوجدا القوم قد قدموا عبد الرحمن بن عوف يؤمهم، وكأن الصحابة خافوا على ضياع وقت الفضيلة لصلاة الصبح، وتوقعوا تأخر النبي صلى الله عليه وسلم لعذر في قضاء الحاجة، وهم يعلمون حرصه صلى الله عليه وسلم على أداء الصلاة في أول وقتها، ويعلمون إذنه صلى الله عليه وسلم في أن يؤمهم أحدهم إذا تأخر عنهم.
جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صلى بهم عبد الرحمن بن عوف ركعة فوقف في الصف خلف عبد الرحمن بن عوف، وأراد المغيرة أن