يقول المصنف رحمه الله: ولهما -يعني: البخاري ومسلم - عن سهل بن سعد رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ويحبه الله ورسوله).
كانت خيبر سنة سبعة من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، ففي يوم خيبر قال النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله)، كونه يقول: سنعطي الراية لمن هذه صفته فكل المسلمين يتمنون ذلك: (فبات الناس يدوكون ليلتهم) باتوا يخوضون فيمن سيستلم الراية غداً، وكل منهم يتمنى أن يكون هذا الذي يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، قال: (فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها.
فلما أصبحوا غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها).
نلاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يولي أحداً يطلب الولاية، عادة النبي صلى الله عليه وسلم في المسلمين أن الذي يطلب ولاية أنه ما كان يعطيه، وكان يقول: (إنا لا نولي هذا الأمر من طلبه)، لكن المسلمين كانوا يطلبونها في تلك الليلة خاصة لينالوا شرف قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ويحبه الله ورسوله)، رجاء أن يكون هذا الشخص يحبه الله ورسوله.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أين علي بن أبي طالب؟)، وفي الحديث نفسه في الصحيحين عن سلمة بن الأكوع يقول: كان علياً أرمد، كان في هذه الليلة قد أصابه رمد في عينيه فلا يرى شيئاً، فكاد يتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال في نفسه: أنا أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فخرج علي رضي الله عنه وما كانوا يرجونه.
يعني: ما كان على بال أحد أبداً أن يأتي علياً رضي الله تبارك وتعالى عنه؛ لأنه موجود في المدينة وعينيه فيها رمد ولا يقدر على القتال، فعلى ذلك تخلف، ومع ذلك خرج ليدرك النبي صلى الله عليه وسلم، فلما خرج لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم، فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك: (أين علي بن أبي طالب؟ قيل: هو يشتكي عينيه.
قال: فأرسلوا إليه)، فلما جاء علي رضي الله تبارك وتعالى عنه أتي به فبصق في عينيه ودعا له النبي صلى الله عليه وسلم، فبرئت عينه رضي الله عنه وصحت، قال: (فبصق في عينيه ودعا له فبرئ كأن لم يكن به وجع فأعطاه الراية، فقال: انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام).
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام)، يعني: لا تقاتلهم مباشرة، ولكن ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، (فو الله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم).
فالنبي صلى الله عليه وسلم يبين أن الهداية إلى دين الله سبحانه والاهتداء أفضل من القتال والجهاد، وأن هؤلاء لو يهديهم الله طائعين أفضل من أن تكرههم بالجهاد في سبيل الله عز وجل، حتى لو كان رجلاً واحداً يهديه الله عز وجل على يديك.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم في رواية: (إني دافع اللواء إلى رجل يحبه الله ورسوله) واللواء هو العلم الذي يذهب به في القتال، فهنا كان للنبي صلى الله عليه وسلم راية ولواءً، وكأن أحدهما أكبر من الآخر.
يقول شيخ الإسلام: (ليس هذا الوصف مختصاً بـ علي ولا بالأئمة؛ فإن الله ورسوله يحبان كل مؤمن تقي يحب الله ورسوله)، يعني: بعض الناس يأخذ من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لأعطين الراية غداً لرجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله) ويقصرها على علي فقط، فيقول شيخ الإسلام: إن الأمر ليس محصوراً في علي فقط، ولكن في هذا اليوم ذكر له النبي صلى الله عليه وسلم ذلك تمييزاً وتفضيلاً، ولكن ليس معناه أنه فقط هو الذي يحبه الله دون سائر المؤمنين، وقد قال الله عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31]، إذاً: كل من يطع الله يحبه الله سبحانه بدلالة هذه الآية.
لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث أن هذا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، وأعطى الراية لـ علي رضي الله عنه، وبصق في عينه عليه الصلاة والسلام، ودعا له فبرئ، وفي رواية أخرى يقول علي: فما رمدت ولا صدعت منذ دفع النبي صلى الله عليه وسلم إلي الراية.
يعني: من هذا اليوم لم يصب علي رضي الله عنه برمد ولا صداع بعدما تفل النبي صلى الله عليه وسلم في عينيه ودعا له.
ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام).
الإسلام هو: الاستسلام لله سبحانه تبارك وتعالى والخضوع لله والعبودية له وحده.
لذلك فالإنسان المسلم لا بد أن يتأمل هذه الكلمة، فلا يعصي الله ويقول: أنا مسلم لله سبحانه أي: مسلم نفسي مذعن لأمر الله، مطيع مستسلم له، فذلك ينافي أن يعصيه وأن يستكبر على الله سبحانه تبارك وتعالى.
فالإسلام استسلام كامل لله سبحانه تبارك وتعالى، ولذلك جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الإسلام قال: (الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت).
الإسلام أعمال ظاهرة تفيد استسلاماً وانقياداً لله سبحانه تبارك وتعالى.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: ودين الإسلام الذي ارتضاه الله وبعث به رسله هو الاستلام له وحده، فأصله في القلب، والخضوع له وحده بعبادته وحده دون ما سواه، فمن عبد الله وعبد معه إلهاً آخر لم يكن مسلماً.
فهذا لم يستسلم لله، فلا بد وأن تكون العبادة خالصة للرب وحده لا شريك له.
ومن استكبر عن عبادته لم يكن مسلماً، والأصل: أن الإسلام هو استسلام بالقلب، وعمل القلب يعبر عنه اللسان بقول لا إله إلا الله، أما الإيمان فأصله: تصديق القلب وإقراره ومعرفته، فهو من باب القول القلبي المتضمن عمل القلب.
في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فو الله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم) حمر: جمع أحمر، وبهيمة الأنعام عند العرب أفضلها وأنفسها وأغلاها عندهم النوع الأحمر من الإبل ونحوها، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: إذا هدى الله عز وجل بك رجلاً واحداً هذا أفضل من أن تجمع أنفس وأغلى وأعلى الأموال.