قال المصنف رحمه الله: باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله.
وقول الله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء:57].
يذكر الله عز وجل هؤلاء الذين عبدوا المسيح من دون الله، وعبدوا عزيراً من دون الله، وعبدوا أصناماً وملائكة وجاناً من دون الله واتخذوهم آلهة، فيقول: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} [الإسراء:57] أصلها: هؤلاء الذين يدعونهم ويؤلهونهم يتبرءون من عبادتهم، وهم يتقربون إلى الله بكافة وجوه الخير، عبدوا المسيح والمسيح عبد لله وتقرب إلى الله سبحانه، وعبدوا عزيراً وعزير يعبد الله ويتقرب إليه، ويرجو إليه الوسيلة.
وعبدوا الملائكة من دون الله والملائكة تعبد الله سبحانه وتبتغي إليه الوسيلة -يعني: تفعل الخيرات تبتغي رضاه سبحانه تبارك وتعالى- وعبدوا الجان من دون الله وأسلم الجان فعبدوا الله وتبرءوا من هؤلاء وظل هؤلاء على عبادتهم الباطلة.
وقوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} [الإسراء:57]، يبتغون كل وسيلة تقربهم من الله سبحانه تبارك وتعالى، ويعبدون الله بكافة وجوه العبادة.
وقوله: {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء:57] يعني: يتسابقون من منهم أقرب إلى الله؟ وكل من الجن والملائكة والرسل يبتغي إلى الله الوسيلة، ويبتغي أن يكون مقرباً عند الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء:57]، الدعاء وذكر الله عز وجل له مقامات ثلاثة كما يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: مقام الحب لله سبحانه والتوسل إليه: يحبون الله فيتوسلون إليه بأعمال صالحة حتى يقربهم إليه، فهنا الحب ابتغاء التقرب إلى الله سبحانه تبارك وتعالى والتوسل إلى ذلك بالأعمال الصالحة.
مقام آخر وهو الرجاء: رجاء ما عند الله من ثواب، مقام ثالث وهو: أنهم يخافون العقاب، قال: {وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء:57] فشروط العبادة: أنك تحب الله سبحانه الذي تتقرب إليه وتخافه وترجوه، والرجاء فيما عنده، والخوف مما عنده سبحانه.
إذا كانت هذه صفات الأنبياء والرسل والأولياء والمقربين من الملائكة إلى الله تبارك وتعالى الكل يخافون ويحبون ويرجون، إذاً العبادة لا تكون إلا بكمال الحب لله سبحانه، وبكمال الخوف والذل بين يديه، وبكمال الرجاء فيما عنده سبحانه تبارك وتعالى، كما في المسند عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده: أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: والله يا رسول الله! ما أتيتك إلا بعدما حلفت عدد أصابعي هذه ألا آتيك.
كان الكفرة يحذرون الناس من الذهاب للنبي صلى الله عليه وسلم، فكان أحدهم حتى يمنع نفسه من الذهاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحلف على ذلك عدة أيمان، فيكي بهز هنا أنه عد على أصابع يده أنه لن يذهب للنبي صلى الله عليه وسلم ومع ذلك ذهب، والله عز وجل يهدي من يشاء.
يقول: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم حين أتيته فقلت: والله ما أتيتك حتى حلفت أكثر من عدد أولاء ألا آتيك ولا آتي دينك، وجمع بهز بين كفيه -يعني حلف بعدد أصابعه العشرة أنه لن يدخل في هذا الدين- قال: وقد جئت أمراً لا أعقل شيئاً إلا ما علمني الله تبارك وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم يعني: من يهدي الله فلا مضل له، أراد الله به الهداية مع أنه حلف هذه الأيمان، ومع ذلك ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاهتدى ودخل في هذا الدين.
يقول: إني سائلك بوجه الله -يعني: أسألك وأغلظ عليك في اليمين- بعثك الله إلينا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (بالإسلام.
قال: قلت: وما آيات الإسلام؟)، أي: ما هي العلامات والآيات التي فيها الإسلام.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أن تقول: أسلمت وجهي لله وتخليت).
هذه رواية، وفي الرواية الأخرى: (أن تسلم قلبك وأن توجه وجهك إلى الله).
الإسلام: أن تسلم قلبك لخالقك سبحانه تبارك وتعالى، وتوجه وجهك وتستقيم على هذا الدين، فلا تتوجه ولا تلتفت عنه إلى غيره سبحانه.
فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أن تقول: أسلمت وجهي لله وتخليت).
هذه هي كلمة لا إله إلا الله، هذه الكلمة المعنى الذي فيها هو: أسلمت لله، وجهت وجهي لله، آمنت بالله، وتخليت عن غيره من الآلهة، أي: تركت جميع الآلهة والأنداد من دون الله سبحانه وتعالى.
فتقول: لا إله إلا الله يعني: تركت جميع الآلهة فلا أعبد إلا إلهاً واحداً.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أن تقول: أسلمت وجهي لله وتخليت، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، كل مسلم على مسلم محرم).
يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم هذا الدين العظيم، وأن المسلم أخ للمسلم لا يخذله، لا يتركه، (المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضاً).
فقال صلى الله عليه وسلم بعدما ذكر التوحيد والصلاة، والزكاة: (كل مسلم على مسلم محرم، أخوان نصيران، لا يقبل الله من مشرك أشرك بعدما أسلم عملاً، وتفارق المشركين إلى المسلمين).
يعني: إذا أسلمت فاترك ديار الشرك وائت دار الإسلام وعش مع المسلمين لتعبد الله تعالى بينهم، ولا تكثر سواد المشركين.
قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث نفسه: (ما لي أمسك بحجزكم عن النار؟) يعني: العجيب من أمرهم وأمره صلى الله عليه وسلم أنه خائف عليهم ويمسك بحجزهم، والحجزة هي موضع ربط الحزام -يعني: كأنه مسكهم من المكان الذي لا يفلتون منه- ومع ذلك يتفلتون بشركهم وبمعاصيهم فيقعون في النار فيعذبهم، أنا أدلكم على الخير، وأحذركم من الشر، وآخذ بحجزكم حتى أبعدكم عن النار، ومع ذلك أنتم تصرون على ذلك.
يقول: (ما لي أمسك بحجزكم عن النار، ألا إن ربي عز وجل داعي وإنه سائلي) أي: الله داعي النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة وسائله، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (فليبلغ الشاهد منكم الغائب، ثم إنكم مدعوون مفدمة أفواهكم بالفدام).
هذا مما علمه النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاوية بن حيدة القشيري ومعنى: إنكم مدعوون أي: بين يدي الله عز وجل ليسألكم.
والفدام: الرباط الذي يوضع على فم السقاء أو الإناء حتى لا ينسكب ما بداخله.
و (مفدمة أفواهكم) يعني: مغلق على (أفواهكم) يوم القيامة حتى تنطق جوارحكم.
قال: (ثم إن أول ما يبين عن أحدكم لفخذه وكفه)، أي: أن أول ما ينطق فخذ الإنسان وكفه، الفخذ ينبئ ويخبر أنه عمل كذا وكذا، ووقع في الحرام بكذا وكذا، وكف الإنسان أخذ مالاً حراماً، وسفك دماً حراماً، وتعاطى حراماً بكذا وكذا، فينطق هؤلاء ولسانه لا ينطق.
قال: قلت: (يا نبي الله! هذا ديننا؟ قال: هذا دينكم، وأينما تحسن يكفك) أي: في أي مكان وكيفما أحسنت يكفيك إحسانك عند الله عز وجل.