وعن علي رضي الله عنه قال: (حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات)، وهذا الحديث سببه كما قال أبو الطفيل: قلنا لـ علي: أخبرنا بشيء أسره إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كانوا يظنون أن النبي صلى الله عليه وسلم أسر له بشيء؛ لكون علي ابن عمه، ولكونه زوج ابنته، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يذهب إليه في بيته كثيراً، وهو الذي رباه عليه الصلاة والسلام، إذاً فيكون قد أسرّ له بشيء لم يذكره لغيره.
فقال علي رضي الله عنه: ما أسر إلي بشيء كتمه الناس وحاشا له صلوات الله وسلامه عليه أن يخص علياً بشيء من الشرع دون غيره من الناس، فقد قال له ربه: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:67]، ولو أنه كتم شيئاً عليه الصلاة والسلام فإنه لم يبلغ الرسالة، فقد أمره الله عز وجل بتبليغ كل شيء، فالشريعة تكون للجميع، وقد يسر لأحد أصحابه سراً في أن فلاناً هذا منافق، وهذا لن يعمل به المسلمون شيئاً، فهذا المنافق سيموت وسينتهي هذا الجيل، فالذين يأتون بعد ذلك لن يستفيدوا شيئاً من هذا الشيء، فيسر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك إلى البعض كما أسر لـ حذيفة بأسماء مجموعة من المنافقين، فكان حذيفة لا يصلي على هؤلاء إذا ماتوا، فهذا السر ليس من الأحكام التي يطالب الناس بالعمل بها ولذلك لم يقله النبي صلى الله عليه وسلم لأحد غير حذيفة وجعله على وجه الإسرار، فهذا يكون فيه الإسرار، وأما الشريعة والتكليف والأعمال التي تقرب إلى الله والتي تباعد من الله فليس للنبي صلى الله عليه وسلم أن يسرها لأحد من أصحابه، بل يجب أن يبلغ هذا إلى كل المؤمنين.
قال علي رضي الله عنه: ولكن سمعته يقول: (لعن الله من ذبح لغير الله).
إذاً: فالذبح إما أن يكون لله عز وجل، فهذا الذي يؤكل منه، وإما أن يكون لغير الله فهو ميتة وهو شرك بالله سبحانه، ولا يجوز لأحد أن يأكل منه.
قال: (لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من آوى محدثاً)، وهذه فيها وجهان: (من آوى محدِثاً) و (من آوى محدَثاً)، وكلاهما صحيح، فالمحدِث: اسم فاعل، وهو الذي يحدث الحدث، كأن يقتل إنسان إنساناً ويهرب ويلجأ إلى قوم، فأخذوه بعدما قتل عمداً وعدواناً وأخفوه عندهم من أجل ألا يقتص منه، فهذا محدث أحدث حدثاً، والمحدث أيضاً قد يكون وقع في جرم يستحق عليه العقوبة، أو في ابتداع يستحق عليه التعزير، فيأتي إنسان ويأوي صاحب الحدث، (لعن الله من آوى محدثاً).
والمحدَث -بالفتح- هي البدعة والشيء الذي أحدث في الإسلام ولم يكن قبل ذلك، فالذي يأوي المحدث الذي يدافع عن البدعة، والذي يأويها، والذي ينشرها بين الناس قد لعنه النبي صلوات الله وسلامه عليه فقال: (لعن الله من آوى محدِثاً)، وكذلك (من آوى محدَثاً).
وقال هنا في الحديث: (لعن الله من لعن والديه)، فالذي يلعن ويسب ويشتم والديه ويدعو عليهما هذا ملعون.
قوله: (لعن الله من غير منار الأرض)، مثل أن يغير علامات الطريق، فالناس يعرفون أن الطريق يكون في السكة الفلانية، فيقوم إنسان ويغير علامات الطريق كي يتوه الناس.
ويدخل في ذلك من يغير العلامات والحدود بينه وبين جاره، فأرضه تنتهي إلى العلامة الفلانية ثم تبدأ علامة جاره، فيذهب ويغير هذه العلامة ويزيد في حقه متراً أو مترين من أرض جاره.
وجاء في رواية: (من غير تخوم الأرض)، وكأنها الحدود والعلامات التي تكون على الأرض.