اتفاق الأنبياء في العقيدة واختلافهم في الشرائع

قوله: {وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} [الأنعام:163] أي: أن تكون حياتي ومماتي وصلاتي ونسكي لله رب العالمين، {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر:14] فأمر الله عز وجل بالإخلاص وهنا قال: {وَبِذَلِكَ} [الأنعام:163] أي: بإخلاص العبادة لله سبحانه وتوحيده: {أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:163]، فالنبي صلى الله عليه وسلم هو أول المسلمين في هذه الأمة، ومن قبله من الأنبياء كل نبي بعث إلى أمته فهو أول المسلمين في تلك الأمة، والإسلام هو دين الله رب العالمين الذي قال فيه: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، فهو دين الله الذي بعث به الرسل، فكل الرسل دعوا أقوامهم إلى أن يسلموا أنفسهم لله وأن يتوجهوا بعباداتهم إليه.

فكل نبي بعث بأن يقول لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]، وصرح أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام بأنهم مسلمون لله سبحانه، وهذا تجده كثيراً في كتاب الله سبحانه.

وقد دعا إبراهيم عليه الصلاة والسلام ربه فقال: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} [البقرة:127]، وهذا حين رفع القواعد من البيت، {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} [البقرة:127] قائلين: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا} [البقرة:127 - 128].

وإبراهيم عليه الصلاة والسلام هو أبو الأنبياء من بعده جميعهم، وقال: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:128]، وذكر أيضاً: {وَوَصَّى بِهَا} [البقرة:132] أي: بهذه الوصية وبهذه الكلمة، وهي كلمة التوحيد والإسلام، {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132].

إذاً: فقد قالها إبراهيم وقالها إسماعيل ووصى بها يعقوب بنيه أن يموتوا على الإسلام.

وكذلك ذكر الله سبحانه وتعالى في سورة البقرة: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ} [البقرة:136] أي: لله عز وجل: {مُسْلِمُونَ} [البقرة:136].

فكلمة الإسلام: هي التسليم لله سبحانه، وهي الحياة على هذا الدين والوفاة على هذا الذي أمر الله عز وجل به عباده، وانظر في سورة آل عمران إلى قول الله عز وجل: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ} [آل عمران:52] وهم أتباع المسيح عليه الصلاة والسلام، {نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:52].

فهذا الذي قاله إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام وقاله إسماعيل كذلك قاله المسيح عليه الصلاة والسلام، وقاله الحواريون، قال الله سبحانه: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [المائدة:111] فقالها الحواريون لله سبحانه.

وقالها أيضاً نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فقد ذكر الله عز وجل في سورة يونس عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ} [يونس:71] أي: يدعو قومه، وقد كان نوح قبل إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فقال لقومه: {إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ * فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:71 - 72]، فأمر نوح عليه الصلاة والسلام أن يكون من المسلمين، وقال ذلك لقومه.

وكذلك موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام في السورة نفسها: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس:84].

إذاً: قالها نوح، وقالها إبراهيم، وقالها إسماعيل، وقالها يعقوب، وقالها موسى، وقالها المسيح ابن مريم، وقالها الحواريون.

إن الإسلام هو دين رب العالمين سبحانه، وقد قال لنا سبحانه: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:78]، فكلمة الإسلام جعلها الله أعظم وأحلى وأجمل كلمة، وكلمة التوحيد هي كلمة الإسلام، {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33]، لا أحد أحسن من هذا.

وإذا دخل أهل الجنة الجنة قال الله عز وجل لهم: {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} [الزخرف:68 - 69]، فهذه الكلمة العظيمة التي قالها الأنبياء قالوها وهم يدعون الناس إلى هذا الدين العظيم: دين الإسلام.

فكل الأنبياء يدعون إلى كلمة التوحيد، فالعقيدة واحدة لا تتغير ولا تتبدل، وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر، فهذه لا تتغير في كل الأديان، فالله عز وجل يأمر بهذا التوحيد العظيم في كل الأديان، ولكن تختلف الشرائع، فهناك أشياء يحلها الله لأقوام ويحرمها على آخرين بحسب أعمال العباد، فقد يضيق على بعض الأمم بسبب ظلمهم: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [النساء:160 - 161] فبكفرهم وبصدهم عن سبيل الله سبحانه، وأكلهم الربا، وأخذهم إياه، حرم الله سبحانه عليهم بعض الطيبات.

وأما في ديننا فقد وسع لنا أمر الطيبات وأباح لنا كل الطيبات، ولم يحرم علينا شيئاً طيباً، فقال عن النبي صلى الله عليه وسلم: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [الأعراف:157] أي: بكل معروف، {وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ} [الأعراف:157] أي: عن كل منكر، {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] واللام في الطيبات لام الجنس فتعم كل الطيبات التي خلقها الله سبحانه، فهي حلال تفضلاً من الله على هذه الأمة.

{وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] يعني: جنس الخبائث، فكل ما كان خبيثاً فهو محرم علينا في ديننا، {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:157]، فالأغلال التي كانت على السابقين ليست علينا كما سيظهر في الأحاديث التي ستأتي.

وقال هنا: {وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:163] يعني: في هذه الأمة، فهو عليه الصلاة والسلام أول من قال هذه المقالة ودعا الناس عليها عليه الصلاة والسلام، قال الله عز وجل: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر:1 - 3].

والكوثر نهر عظيم في الجنة يشرب منه المؤمنون، ماؤه أحلى من العسل، وأشد بياضاً من الثلج، وعدد آنيته كعدد النجوم، فهذا شيء عظيم جداً، ومن شرب منه لا يظمأ بعده أبداً، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن يشربون منه.

وقال هنا: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2] أي: إن أعطاك ربنا هذا الحوض العظيم في جنته كي تشرب منه وتسقي منه المؤمنين، فإن الواجب عليك والجزاء منك: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2]، فعبر هنا بأعظم عبادتين؛ ولذلك عقب بالفاء التي تفيد الترتيب والتعقيب والتسبب في ذلك، أي: لأننا أعطيناك الكوثر فتعبد لله بأعظم ما يكون من العبادة فصل لله وانحر واذبح لله سبحانه، فعرفنا بذلك فضل هاتين العبادتين: الصلاة لله عز وجل، والذبح لله سبحانه، فالصلاة عبادة بدنية، والذبح عبادة مالية، وفيها تعب بدني إن كان الإنسان يذبح بنفسه.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أمره الله سبحانه أن يجمع بين هاتين العبادتين -وهما: الصلاة والنسك- الدالتين على القرب والتواضع والافتقار وحسن الظن وقوة اليقين وطمأنينة القلب إلى الله، وإلى عدة الله سبحانه، عكس أهل الكبر والنفرة.

فالمستكبرون يتركون الصلاة، وإذا جاء وقت الأضحية أو غيرها فإنه لا يكلف نفسه أن يفعل ذلك.

قال: عكس أهل الكبر والنفرة وأهل الغنى عن الله الذين لا حاجة لهم في الصلاة إلى ربهم، والذين لا ينحرون له خوفاً من الفقر؛ ولهذا جمعها الله عز وجل في قوله: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} [الأنعام:162] الآية، قال: والنسك: الذبيحة لله عز وجل ابتغاء وجهه.

فأجل الع

طور بواسطة نورين ميديا © 2015