وَكَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اُبْتُلِيت، لِأَنَّ الِابْتِلَاءَ بِالْمُحَرَّمِ يَكُونُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــQفَإِذَا كَانَتْ النَّتِيجَةُ فِي الْقِيَاسِ الْمَذْكُورِ أَنَّ بَعْضَ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ الَّذِي هُوَ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَيْسَ بِحَرَامٍ فَلَا مَعْنَى لِتَخْصِيصِهِ بِالصُّوَرِ الثَّلَاثِ الْمُسْتَثْنَاةِ فِي الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَحْرُمُ مِنْ أُمُورِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَثِيرٌ لَا يُحْصَى فَمَا الْوَجْهُ لِلتَّخْصِيصِ عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْجَوَابِ لَا يَحْسِمُ مَادَّةَ السُّؤَالِ لِإِمْكَانِ أَنْ يُورَدَ السُّؤَالُ بِصُورَةِ الْقِيَاسِ الِاسْتِثْنَائِيِّ. وَيُقَالُ: لَوْ كَانَتْ الْمَلَاهِي كُلُّهَا حَرَامًا لَكَانَتْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا أَيْضًا حَرَامًا لِأَنَّهَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [الحديد: 20] وَلَكِنَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا لَيْسَتْ بِحَرَامٍ، يَنْتُجُ أَنَّ الْمَلَاهِيَ كُلَّهَا لَيْسَتْ بِحَرَامٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجَوَابَ الْمَذْكُورَ لَا يَتَمَشَّى حِينَئِذٍ.
فَالصَّوَابُ فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ لَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [الحديد: 20] أَنَّهَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ حَقِيقَةً بَلْ الْمُرَادُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهَا كَلَعِبٍ وَلَهْوٍ عَلَى طَرِيقِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ: يَعْنِي أَنَّهَا كَاللَّعِبِ وَاللَّهْوِ فِي سُرْعَةِ فَنَائِهَا وَانْقِضَائِهَا، صَرَّحَ بِهِ فِي التَّفْسِيرِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ حُرْمَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا عَدَمُ حُرْمَةِ اللَّعِبِ وَاللَّهْوِ أَيْضًا كَمَا لَا يَخْفَى (قَوْلُهُ وَكَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ اُبْتُلِيت؛ لِأَنَّ الِابْتِلَاءَ بِالْمُحَرَّمِ يَكُونُ) يَعْنِي وَدَلَّ أَيْضًا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ اُبْتُلِيت عَلَى أَنَّ الْمَلَاهِيَ كُلَّهَا حَرَامٌ؛ لِأَنَّ الِابْتِلَاءَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْمُحَرَّمِ، وَقَدْ أَشَارَ إلَى هَذَا الْقَصْرِ بِتَقْدِيمِ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ عَلَى الْفِعْلِ فِي قَوْلِهِ بِالْمُحَرَّمِ يَكُونُ.
أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: دَلَالَةُ قَوْلِهِ اُبْتُلِيت عَلَى حُرْمَةِ مَا وَجَدَهُ ثَمَّةَ مُسَلَّمَةٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الِابْتِلَاءَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْمُحَرَّمِ. وَأَمَّا دَلَالَتُهُ عَلَى حُرْمَةِ كُلِّ الْمَلَاهِي كَمَا هُوَ الْمُدَّعَى فَمَمْنُوعَةٌ، كَيْفَ، وَقَدْ قَالَ اُبْتُلِيت بِهَذَا مَرَّةً انْتَهَى. وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا اُبْتُلِيَ بِهِ مَرَّةً لَا يَكُونُ كُلَّ الْمَلَاهِي، بَلْ إنَّمَا يَكُونُ شَيْئًا مُعَيَّنًا مِنْهَا. وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِ الْوِقَايَةِ. قَالُوا قَوْلُهُ اُبْتُلِيت يَدُلُّ عَلَى الْحُرْمَةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ الصَّبْرَ عَلَى الْحَرَامِ لِإِقَامَةِ السُّنَّةِ لَا يَجُوزُ، وَالصَّبْرُ الَّذِي قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ جَازَ أَنْ يَكُونَ جَالِسًا مُعْرِضًا عَنْ ذَلِكَ اللَّهْوِ مُنْكِرًا لَهُ غَيْرَ مُشْتَغِلٍ وَلَا مُتَلَذِّذٍ بِهِ اهـ.
أَقُولُ: ذَلِكَ سَاقِطٌ؛ لِأَنَّ إجَابَةَ الدَّعْوَةِ وَإِنْ كَانَتْ سُنَّةً ابْتِدَاءً إلَّا أَنَّهَا تَصِيرُ وَاجِبَةً بَقَاءً حَيْثُ يَلْزَمُهُ حَقُّ الدَّعْوَةِ بَعْدَ الْحُضُورِ لِالْتِزَامِهِ الْإِجَابَةَ بِالْحُضُورِ، كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي سَائِرِ النَّوَافِلِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَنَحْوِهِمَا، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهَا تَصِيرُ وَاجِبَةً بِالشُّرُوعِ فِيهَا فَكَانَ الصَّبْرُ عَلَى الْحَرَامِ فِيمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لِإِقَامَةِ الْوَاجِبِ فَيَجُوزُ كَمَا فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ إذَا حَضَرَتْهَا النِّيَاحَةُ، وَقَدْ مَرَّ مِنَّا مِثْلُ هَذَا الْجَوَابِ فِيمَا قَبْلُ فَتَذَكَّرْ. ثُمَّ إنَّ جَوَازَ كَوْنِ أَبِي حَنِيفَةَ جَالِسًا مُعْرِضًا عَنْ ذَلِكَ اللَّهْوِ مُنْكِرًا لَهُ غَيْرَ مُشْتَغِلٍ وَلَا مُتَلَذِّذٍ بِهِ لَا يَدْفَعُ حُرْمَةَ ذَلِكَ اللَّهْوِ وَلَا حُرْمَةَ الْجُلُوسِ عَلَيْهِ، إذْ قَدْ ذَكَرَ فِي الْكَافِي وَالشُّرُوحِ أَنَّ الصَّدْرَ الشَّهِيدَ رَوَى فِي كَرَاهِيَةِ الْوَاقِعَاتِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «اسْتِمَاعُ الْمَلَاهِي مَعْصِيَةٌ، وَالْجُلُوسُ عَلَيْهَا فِسْقٌ، وَالتَّلَذُّذُ بِهَا مِنْ الْكُفْرِ» وَمَدْلُولُ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ مُجَرَّدَ الْجُلُوسِ عَلَى فِسْقِ اللَّهْوِ فَأَنَّى يُتَصَوَّرُ اخْتِيَارُ ذَلِكَ مِنْ مِثْلِ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ لَوْ لَمْ يُعَارِضْ وُجُوبَ إجَابَةِ الدَّعْوَةِ بَعْدَ الْحُضُورِ شَرٌّ مِنْ ذَلِكَ فَتَأَمَّلْ.
وَقَدْ أَوْرَدَ صَاحِبُ الْإِصْلَاحِ وَالْإِيضَاحِ مَا أَوْرَدَهُ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ مَعَ زِيَادَةِ بَعْضٍ مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ سِيَّمَا فِي أَوَّلِ إيرَادِهِ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ، وَدَلَّ قَوْلُهُ عَلَى حُرْمَةِ كُلِّ الْمَلَاهِي؛ لِأَنَّ الِابْتِلَاءَ بِالْمُحَرَّمِ يَكُونُ كَذَا قَالُوا وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ الِابْتِلَاءَ يُسْتَعْمَلُ فِيمَا هُوَ مَحْظُورُ الْعَوَاقِبِ وَلَوْ كَانَ مُبَاحًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ اُبْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ» الْحَدِيثَ. ثُمَّ إنَّ الصَّبْرَ عَلَى الْحَرَامِ رِعَايَةً لِحَقِّ الدَّعْوَةِ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ السُّنَّةَ تُتْرَكُ حَذَرًا عَنْ ارْتِكَابِ الْمَحْظُورِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ جَلَسَ مُعْرِضًا عَنْ ذَلِكَ اللَّهْوِ مُنْكِرًا لَهُ غَيْرَ مُسْتَمِعٍ لَهُ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ مِنْهُ الْجُلُوسُ عَلَى اللَّهْوِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ مُبْتَلًى بِحَرَامٍ انْتَهَى. وَقَدْ نَقَلَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بِتَقْصِيرٍ وَتَحْرِيفٍ وَعَزَاهُ فِي الْحَاشِيَةِ إلَى صَاحِبِ الْإِصْلَاحِ وَالْإِيضَاحِ، ثُمَّ قَصَدَ رَدَّهُ فَأَتَى بِكَلَامٍ مُفَصَّلٍ مُشَوَّشٍ قَابِلٍ لِلدَّخْلِ وَالْخَرْجِ تَرَكْنَا ذِكْرَهُ وَبَيَانَ مَا فِيهِ تَحَاشِيًا عَنْ الْإِطْنَابِ الْمُمِلِّ، وَمَنْ شَاءَ فَلْيُرَاجِعْ كِتَابَهُ.